القــــــــــــــدس
القدس هي إحدى عواصم المسلمين الروحية وعاصمة فلسطين السياسية، وستظل إن شاء الله ما دامت السماوات والأرض، فالقدس عربية المنشأ والهوية، أسسها اليبوسيون العرب –وهم بطن من الكنعانيين– وأطلقوا عليها "يورسالم" أو "يبوس" على اسم اليبوسيين بناة القدس الأولين، وكان ذلك سنة 3000 ق.م(1). ومنذ ذلك التاريخ إلى يومنا هذا لم تعرفْ بقعة في العالم تصالحت عليها المحن واختلف عليها الغزاة والطامعون من كل حدب وصوب كأرض فلسطين وخاصة مدينة القدس.
وتُعدّ مدينة القدس ظاهرة حضارية فذة تنفرد بها دون سواها من مدن العالم، ويحار من الباحثين كل من يحاول استشفاف أسباب نشأة هذه المدينة المقدسة والتعرف إلى الخصائص الجغرافية والتاريخية والحضارية الفريدة التي يتمتع بها كل من الموقع والموضع.
والقدس ليست مجرد مدينة من المدن أو عاصمة من العواصم، وإنما هي مركز إشعاع يتفجر بمعان تاريخية ودينية وحضارية قلّما توافرت في مدينة أخرى، فمدينة القدس تحتل مكانة بارزة في وعي الإنسان في كل مكان وزمان، حيث تميزت تاريخياً بأنها مدينة ترفض الاستسلام طوعاً لأحد من الغزاة، وهي تتجمّل بالصبر على محاولات اغتصابهم لها وفرض سطوتهم عليها بالقوة.
ولا يلخص هذا الوصف واقع مدينة القدس التاريخي تماماً، أو كما حدث بالتفصيل، ولا يكشف عن واقعها المرير الآن، ولكنه يكشف عن حضورها التاريخي ويؤكد شخصيتها المتميزة المتمردة على كل ظلم وظالم.
والقراءة المتأنية لتاريخ المدينة تكشف عن مراحل تألقت فيها القدس، فاحتلت خلالها مراكز مرموقة ومكانة حضارية رفيعة، مما جعلها دوماً في قلب الحدث التاريخي، كذلك تميزت المدينة بالمحافظة على مركزيتها وأهميتها الإستراتيجية.
وللجغرافيا أيضاً إسقاطاتها المختلفة على القدس، ودون التطرق إلى التفاصيل، يمكن القول إنّ المدينة قد وقعت في أهم منطقة في العالم: منطقة البحر الأبيض المتوسط، وتشكل هذه المنطقة نقطة تجمع للممرات الدولية الهامة، كمضيق جبل طارق والدردنيل ومنطقة الخليج عبر مضيق هرمز وباب المندب وقناة السويس.
وموضوع القدس مثير للدارس والباحث كما هو مثير للسياسي والمتعبد، فهو موضوع يحفل بالحقائق الموضوعية وبالوقائع التاريخية، والعواطف والمعتقدات الدينية، كل هذا أكسب مدينة القدس أهمية وتميزًا وتفردًا لا يشاركها فيها أحد، حتى غدت أهم مدينة في العالم بعد مكة المكرمة والمدينة المنورة.
وسوف أبحث تحت هذا العنصر في تجوال سريع عبر ما يزيد على ثلاثة آلاف سنة الموقع الجغرافي لمدينة القدس والمراحل التاريخية المتعددة لهذه المدينة، فضلاً عن الإشارة إلى مكانتها الدينية والحضارية ولكنني بطبيعة الحال لست معنياً بالدخول في تفاصيل هذه الموضوعات، فإنّ المهتم يستطيع الرجوع إليها في مصادر متخصصة أشرنا إليها جملة في متن هذا البحث، ولكن هذا العرض السريع يهدف إلى إلقاء نظرة هنا وأخرى هناك تقودنا إلى التعرف إلى طبيعة هذه المدينة من حيث النشأة والتطور وعبقرية المكان والتحضر، ولمدينة القدس شخصيتها ولها تمايزاتها، وليس من السهل على الإنسان تجاهل خصوصيات المدن، أو إخضاعها لمعايير ثابتة وكأنها تصنع صناعة مثلها في ذلك مثل أي إنتاج آخر من صناعة الإنسان.
وتحتل جغرافية القدس حيزاً فسيحاً في صفحات التاريخ سواء القديم أو الحديث، فتقع مدينة القدس في قلب فلسطين فوق تل صخري على بعد نحو خمسين كيلومتراً من مدينة "يافا"، على خط العرض (31.52ْ) شمالاً، وخط الطول (35.13ْ) شرقي جرينتش، وقد بنيت المدينة على مرتفعات أربعة تحيط بها مجموعة وديان، وهذه المرتفعات هي: جبل مورُيّا القائم عليه الحرم القدسي الشريف، وجبل أكرا حيث توجد كنيسة القيامة، وجبل بزيتا بالقرب من باب الساهرة، وجبل صهيون الواقع عليه مسجد النبي داوود، وتحيط بالمدينة جبال منها: جبل رأس أبو عمار، وجبل الزيتون، وترتفع المدينة (892) متراً عن سطح البحر(2)، كما تحيط بالمدينة عدة تلال وأودية، وهذه الأودية هي "وادي قدرون من الغرب، ووادي هنوم من الشرق، ويبدأ الواديان من الطرف الشمالي الغربي، ويلتقيان في جنوب المدينة، وبذلك يحيطان بالمدينة من الشرق والغرب والجنوب"(3).
وكان من الطبيعي أنْ يقع اختيار سكانها الأصليين وهم اليبوسيون (بطن من الكنعانيين العرب) على هذا الموقع بالذات لبناء مدينة القدس التي أطلقوا عليها اسم "يبوس" منذ الألف الثالث قبل الميلاد، وذلك لما يتميز به هذا الموقع من حصانة طبيعية في وجه الغزاة، فضلاً عن توفر المياه به، فعلى مقربة من "حصن يبوس" يوجد ماء غزير في وادي قدرون.
ويعتبر "حصن يبوس" أقدم أبنية المدينة، وقد شيده اليبوسيون على القسم الجنوبي من الهضبة الشرقية، وشيدوا في طرف الحصن برجاً عالياً للسيطرة على المنطقة، وأحاطوا الحصن بسور(4).
وهكذا قامت مدينة القدس في موقع متميز من أرض فلسطين جعل منها "صورة الوطن المقدس وملتقى أقطاره"(5)، الأمر الذي حدا ببعض العلماء الأقدمين إلى اعتبارها مركز الكوكب الذي نعيش على سطحه، ويدور في فلك القدس عدد من المدن والقرى، ولموقعها هذا أهمية إستراتيجية وأهمية دينية وأهمية حضارية.
وتنقسم مدينة القدس إلى قسمين:
1- المدينة القديمة (القدس الشرقية) وهي زاخرة بآثارها الدينية، وتضم معظم الأماكن المقدسة، وأهم هذه الأماكن "المسجد الأقصى"، وهو الحرم المقدس للمسلمين، الذي تهفو إليه قلوب الملايين من بني البشر. وقد احتلت "إسرائيل" هذا القسم من مدينة القدس عام 1967م.
2- المدينة الجديدة (القدس الغربية): وهي حافلة بالمباني والطرق الحديثة، وقد اغتصبت "إسرائيل" هذا القسم من مدينة القدس اغتصاباً واستولت عليه عنوة عام 1948م.
وتشكيل المدينة هو انعكاس جدلي للموقع الجغرافي الذي تنمو فيه ولمناخها الطبيعي ولطبيعة الناس الذين ينتمون إليها، وخلال تاريخها الطويل تعرّضت القدس لمؤثرات خارجية متعددة كانت متعارضة الأسلوب والهدف في معظم الأحيان، فتركت بصمات واضحة على واقعها التنظيمي وطابعها المعماري.
ولما كانت القدس أكثر المدن فرادة في العالم –حيث تتميز بشخصية واضحة المعالم– فقد كيفت نفسها مع هذه المؤثرات الخارجية ومزجت بينها وبين طبيعة موقعها وحاجات إنسانها المادية والأمنية والروحية، وفضلاً عن كونها مدينة فريدة، فهي مدينة شرق أوسطية، حملت بعض سمات نظيراتها في المنطقة، هذه المدن نشأت كمحطات على الطرق الواصلة بين مصادر الحضارات في مراحل تاريخية متعددة(6).
وهكذا يمكن القول إنّ القدس غدت مصبًا للحضارات الوافدة، وبوتقة للتفاعل بينها، تتمثل القيم في رحمها فتلدها حضارة متميزة، وكذلك يمكن القول إنّه لوقوع القدس على خطوط المواصلات، فقد أدّى ذلك إلى تلاقح الحضارات على أرضها وظهور ملامح خاصة حفلت بها، ومن أهم هذه الملامح تبلور ثقافة مقدسية متميزة تتعايش في بيئة عربية إسلامية وتحتضن تعددية دينية وثقافية تعايشت في سلام ووئام فيما بينها. وليس غربياً والحالة هذه أن تغدو القدس مصدر إلهام لكثير من المبدعين من العلماء والأدباء، وأن يصبح موقعها بل ودورها عاملين فاعلين في تخطيطها وفي تشكيلها المعماري وبنائها الحضاري المتميز.
أما الحديث عن تاريخ القدس فهو حديث طويل موغل في القدم، قادم من أعماق التاريخ السحيق، فهو لا يقف في مداه عند بدء عصر الكتابة في القدس أوائل الألف الثالث قبل الميلاد، بل يتجاوزه إلى عصور ما قبل التاريخ التي شهدت ظهور الإنسان العاقل في القدس، وهذا التاريخ هو ثمرة تفاعل الإنسان في القدس مع بعدي الزمان والمكان.
وننظر في بعد الزمان فنجد أنّ تاريخ القدس هو تاريخ متصل على مدى العصور حافل بأحداث كثيرة، ويمكننا أن نقسم هذا التاريخ إلى مرحلتين رئيسيتين:
المرحلة الأولى: تاريخ القدس قبل الفتح الإسلامي.
المرحلة الثانية: تاريخ القدس بعد الفتح الإسلامي.
وهذا التقسيم له ما يبرره فالانطلاقة العربية الإسلامية في القرن الأول الهجري (السابع الميلادي) كان لها تأثيرها على القدس خاصة والمنطقة العربية عموماً، بحيث يمكن أنْ نميّز بين ما قبل هذه الانطلاقة وما بعدها، وقد مرّ تاريخ القدس في كل من هاتين المرحلتين بعدة أدوار، وكان بصفة عامة تاريخاً متنوعاً، محافظاً على وحدته وعلى مدى القرون التي مضت على نشأة وبناء مدينة القدس، يمكننا ونحن نستحضر تاريخها أنْ نقف عند أهم الحقائق البارزة فيها، فنذكرها بإيجاز دون تفصيل، وننظم منها عقدًا يبرز وحدة هذا التاريخ.
*****
المرحلة الأولى: تاريخ القدس قبل الفتح الإسلامي:
***********
اجتمعت كلمة المؤرخين على أنّ العرب هم مؤسسو هذه المدينة، حيث أسّسها اليبوسون وهم فرع من الكنعانيين العرب وأطلقوا عليها اسماً بلغتهم هو يورسالم، وتعني في اعتقادهم مدينة الإله، وكان أهل هذه المدينة يعتقدون بوحدانية الإله"(7).
وكان بناء هذه المدينة في حوالي الألف الثالثة قبل الميلاد، وذلك لخدمة غرض دفاعي وآخر ديني، لذا فقد بنوا هيكلاً لمعبودهم الأعلى "يورسالم" أو "سالم" –كما تذكره بعض المصادر( - وكان ملك القدس هو الإله الأعلى، ومن هنا اكتسبت المدينة قدسيتها التي استمرت بعد ذلك لأسباب أخرى.
عُرفت القدس أوّل ما عرفت باسم "سالم" الجد المؤسس أو الإله الأعلى، وقد كونت "مملكة مدينة" كغيرها من المدن الكنعانية وعرف من أسماء ملوكها "قدوم سالم" و"ملكي صادق" و"أدوني صادق" وأول ذكرٍ لها ورد في نصوص الظهارة المصرية في القرنين التاسع عشر والثامن عشر قبل الميلاد، بصورة "يوروشاليم" ومعناه على الأرجح "مدينة سالم" كما ورد ذكرها في رسائل تل العمارنة في القرن الرابع عشر قبل الميلاد باسم "يورو–سالم" وفي النقوش الأشورية باسم "أوروسليموا" وأقدم اسمٍ لها في العهد القديم هو "شاليم"(9) . وأطلقت أسماء كثيرة على مدينة القدس عبر العصور.
ويتضح مما سبق أنّ الشعب الكنعاني العربي هو الذي أسس المدينة في زمان بعيد في الماضي وهو الذي أطلق عليها اسمها، وأقام فيها بيتاً للعبادة يذكر فيه اسم الإله فأصبحت قبلة وحجاً، واستمرّت هذه صفة المدينة مع تتالي الرسالات السماوية وانتقال أهل القدس من الديانة الكنعانية إلى اعتناق الأديان السماوية الثلاث: اليهودية فالنصرانية فالإسلام.
ازدهرت الحضارة الكنعانية في مدينة القدس والبلاد التي حولها، وبلغت المساحة التي كانت تشغلها المدينة خلال الألف الثاني قبل الميلاد حوالي أربعين دونماً(*)، وقد أحاط اليبوسيون مدينتهم بسور، وحين مرّ إبراهيم (عليه السلام) حوالي سنة 1900 ق.م كانت القدس مدينة متكاملة ذات قاعدة ملكية وهياكل دينية ومركز مقدس.
وفي سنة 1049ق.م بعد انتقال موسى (عليه السلام) إلى جوار ربه، وعلى إثر انقضاء (40) سنة في صحراء التيه، تولى قيادة بني إسرائيل "يوشع بن نون" الذي عبر نهر الأردن واحتل مدينة "أريحا" ولكنه لم يفلحْ في الاستيلاء على يبوس "القدس"(10).
ولم تسقطْ القدس في يد بني إسرائيل إلا بعد ظهور النبي داوود (عليه السلام) ملكاً عليهم سنة 1020ق.م– الذي كان قد وحد قبائل إسرائيل في ذلك الزمن تقريباً، حيث زحف بجيش يضم نحو ثلاثين ألف مقاتل(11).
احتل داوود المدينة التي كانت تعرف آنذاك باسم "يبوس" في القرن الحادي عشر ق.م. وقد وفّق في اختياره لها عاصمةً لملكه لأنها حصينة ويسهل الدفاع عنها، كما أنها تتحكم في الطرق الرئيسية، وأطلق عليها اسم "أورشليم" وبنى قصره الملكي فيها، ولداوود نسبت "المزامير"(12).
ثم ورث سليمان (عليه السلام) الملك من بعد أبيه "داوود" وحكم أربعين سنة ما بين 963-923ق.م، وبنى هيكلاً وتحصينات وثكنات، وقد دمر هذا الهيكل عدة مرات في التاريخ ولا وجود له في الوقت الحاضر، رغم كل المحاولات التي قام بها بنو صهيون للعثور على بقاياه، وهكذا لم تدمْ دولة اليهود سوى فترة قصيرة، امتدت من سنة 1020ق.م إلى سنة 923ق.م أي أقل من قرن من الزمان(13).
وبعد سليمان انقسمت البلاد في عهد خلفه إلى مملكتين، وهو أمرٌ متوقع ومنتظر من اليهود الذين لا يجتمعون على نبي ولا ملك –على حد تعبير أحد العلماء(14)– هما مملكتا إسرائيل ويهوذا:
* مملكة إسرائيل: كانت توجد في الشمال واتخذت السامرة (نابلس) عاصمة لها، وعاشت في الفترة من سنة 927ق.م إلى سنة 921ق.م، حيث قضى عليها الملك الأشوري "سرجون الثاني".
* مملكة يهوذا: كانت توجد في الجنوب واتخذت أورشليم عاصمة لها، وعاشت في الفترة من سنة 923ق.م إلى سنة 586ق.م، حيث قضى عليها ملك بابل "نبوخذ نصر".
وهكذا لم تُعمّر المملكتان طويلاً، بل تلاشتا إلى الأبد، وسُبِي اليهود على يد ملكي أشور وبابل، ونُقِل من بقِيَ منهم إلى بلادهما (أشور وبابل). وظلّ العرب اليبوسيون يعيشون في مدينتهم المقدسة محافظين على طابعهم السياسي وعاداتهم وتقاليدهم الاجتماعية.
وشهدت القدس منذ القرن العاشر قبل الميلاد وحتى الفتح الإسلامي تتابع حكم دول وإمبراطوريات تداولت الأيام بينها فيها، فقد حكمها المصريون في عهد شنشيق لفترة قصيرة(15)، والأشوريون فالكلدانيون فالفرس فالإغريق فالرومان، وحبلت هذه العهود بأحداث وأحداث، تجلّت من خلالها قدرة شعب القدس على التكيف مع هذه الأحداث، وعمل على الجمع بين الأصالة والتجديد بالحفاظ على هويته وبالتفاعل مع التجارب الحضارية الأخرى وتبادل التأثير معها.
وقد شهدت القدس إبّان حكم الفرس (538-332ق.م) رجوع بعض يهود السبي من بابل إليها، الذين أعادوا بناء الهيكل مرة أخرى بعد صعوبات كثيرة(16)، ولم يهدأ حال اليهود في القدس أو يتوقف عند هذا الحد، بل أخذوا يحاربون أهل القدس من الفلسطينيين ويقاتلونهم لامتلاك البلاد، الأمر الذي جعلهم يذوقون الهوان والذل أثناء الحكم الفارسيّ على فلسطين، وكذلك الحكم الروماني، حيث تعرّضوا في كل الدولة الرومانية إلى محْقٍ وخاصة في الفترة من سنة 131-135م، وذلك في عهد الإمبراطور هدريان الذي قضى على اليهود وهدم الهيكل والقدس، وأعاد بناء القدس مرة أخرى وأطلق عليها اسم "إيلياء كابيتوليا" وسمّى البلاد فلسطين السورية(17).
ومنذ ذلك التاريخ لم يقمْ في فلسطين أو القدس كيان يهودي يذكر حتى سنة 1948م، وإنْ بقِيَ يهود قليلون يقطنون البلاد بعد سنة 135م، وكان عددهم يتراوح ما بين الزيادة والنقصان تبعاً لما أبداه حكام البلاد اللاحقون من تسامحٍ أو تعنت(18).
وقد أورد القس "تشارلزت بردجمان" في كتابه إلى رئيس مجلس الوصايا بتاريخ 12/1/1980م الفترات التاريخية التي مرت بها مدينة القدس حتى الفتح الإسلامي على النحو التالي(19):
م الشعوب البيان التاريخ الفترة الزمنية بالسنة
1 الإسرائيليون من مملكة داوود إلى سقوط أورشليم 1020-586ق.م 434
2 البابليون من سقوط أورشليم إلى سقوط بابل 586-538ق.م 50
3 الفرس من سيروس إلى الغزو المقدوني الفارسي 538-332ق.م 206
4 الإغريق من غزو الإسكندر للقدس إلى تحرير المكابيين 332-166ق.م 166
5 اليهود الدول المكابية 166ق.م-63م 93
6 الرومان من الغزو الروماني للقدس إلى الفتح الفارسي 63-614م 677
الفرس فترة حكم الفرس 614-628م 14
8 الرومان إعادة فتح القدس على يد البيزنطيين 628-637م 11
من هذا البيان يتضح لنا أنّ اليهود لم يمكثوا في القدس كحكام لها إلا في عهد مملكة داوود نحو (434) سنة وفي عهد الدولة المكابية نحو (93) سنة.
من هذا العرض لتاريخ الوقائع المتعلقة بالقدس قبل الفتح الإسلامي –والذي عرضناه بإيجاز أعلاه– يمكن استخلاص بعض الحقائق التي نوجزها في النقاط التالية:
1- أن الحقائق التاريخية تؤكد أن مدينة القدس عربية منذ فجر التاريخ إلى يومنا هذا.
2- أنّ الموقع الإستراتيجي والمكانة الدينية والحضارية لمدينة القدس جعلاها مطمعاً لجميع الأمم وخاصة اليهود الذين يزعمون ويدّعون أنها أرض الميعاد.
3- أنّ اليهود لم يكونوا أصلاً من أهل القدس وإنما هم وافدون عليها وبها سكان أصليون يتألفون من الكنعانيين والفلسطينيين، لهم فيها قدم وعيش وحضارة وثقافة قائمة.
**********
تاريخ القدس بعد الفتح الإسلامي:
*********
نشأت العلاقة بين القدس والإسلام منذ أُسْرِيَ برسول الله محمد صلى الله عليه وسلم من مكة إليها، ومنها عرج إلى السماوات العلى، وأصبح الإيمان بهذا الإسراء جزءاً من العقيدة الإسلامية، وأصبحت القدس قبلة المسلمين وهم في مكة والكعبة المشرفة بين أيديهم، وبقيت قبلة المسلمين مدة تتجاوز الأحد عشر عاماً، مع أنّ الكثيرين كانوا يعتقدون أنها كانت قبلةً لمدة سنة ونصف السنة فحسب بعد الهجرة، إلى أنْ أمر النبي عليه الصلاة والسلام بتحويل القبلة إلى الكعبة في السنة الثانية من الهجرة، فقد "ظلّت القدس قبلةً ابتداءً من سنة 612 للميلاد، السنة التي فرضت فيها الصلاة، وانتهاء بسنة 623 للميلاد السنة التي حوّلت فيها القبلة إلى مكة(20)". وعلى هذا يعتبر سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الفاتح لبيت المقدس وواضع حجر الأساس للوجود الإسلامي في تلك البقعة المباركة.
في سنة 17هـ الموافق 638م فتحت مدينة القدس على يد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وتسلّم مفاتيحها من "صفرونيوس" بطريرك القدس، وأعلن عهده المشهور –المسمى العهدة العمرية– لأهل إيلياء (القدس) وفي هذا العهد أعطى الأمن والأمان لأهل القدس من المسيحيين، في أنفسهم وأموالهم وكنائسهم... الخ(21).
وبدأت القدس منذ الفتح العربي الإسلامي مرحلة جديدة في تاريخها، بقِيَت خلالها فلسطينية عربية، واستمرت مركزاً روحياً في ظلّ الحكم الإسلامي لها، واتصل تاريخها على مدى القرون الثلاثة عشر التالية، وإنْ تعرّضت خلال قرنٍ واحد منها لحكم الصليبيين.
ففي سنة 1099م استولى الصليبيون على مدينة القدس، وأنشؤوا ما يسمّى بـ"مملكة ما وراء البحار" وحكموها من القدس(22)، ولبثت تلك المملكة المسيحية حتى سنة 1187م حينما حرّر السلطان صلاح الدين الأيوبي القدس من قهر الصليبيين وانتصر عليهم في موقعة حطين في 3 يوليو 1187م، وعادت القدس إلى الحكم الإسلامي.
أمر صلاح الدين بإعادة أبنية القدس إلى حالها القديم، وطهّر المسجد والصخرة من أقذار الصليبيين، وصلى فيهما، ونصب منبراً في المسجد كان نور الدين محمود قد أمر بصنعه، وعمل صلاح الدين على توسيع المسجد الأقصى، وتدقيق نقوشه، وزوده بالمصاحف والكتب، فعاد إليه رونقه وبهاؤه وجلاله(23).
ويصوّر العماد الأصفهاني اهتمام صلاح الدين بالمقدسات الإسلامية، وخاصة المسجد الأقصى والصخرة المباركة، بقوله: "وحمل إليها (أي إلى الصخرة) وإلى محراب المسجد الأقصى، مصاحف وختمات وربعات معظمات، لا تزال بين أيدي الزائرين على كراسيها مرفوعة، وعلى أسرتها موضوعة"(24).
واستمرت عناية الأيوبيين بالأقصى والصخرة، كما اهتم من تلاهم من حكام المماليك بعمارة القدس، فجدد الظاهر "بيبرس" ما تداعى من قبة الصخرة وقبة السلسلة وزخرفهما، وبنى خلفاؤه عددًا من الآثار البديعة في المدينة، ومن مظاهر هذه العناية ما فعله بعض سلاطين المماليك في مجال القراءات "ففي عهد الملك الأشرف برسباي، وضع مصحفًا شريفًا تجاه المحراب –وهو مصحف كبير عظيم أهدي إليه بدمشق– ووقف عليه وقفًا، وعين الشيخ شمس الدين محمد بن قطْلُوبُغا الرملي المقرئ للقراءة فيه، وكان قارئاً مشهوراً في الحفظ وحسن الصوت، ثم حلّ ابنه زين الدين عبد القادر في وظيفة والده بعد وفاته"(25).
ولا شكّ أنّ هذا الصنيع يعكس عاملاً من عوامل تقدّم الحركة الفكرية في بيت المقدس، وكانت بيت المقدس مشهورة بعلمائها في العصر المملوكي، وعندما زار ابن بطوطة بيت المقدس في العصر المملوكي سنة 726هـ وصفها بأنها كانت عامرة بالعلماء(26).
واستولى العثمانيون بزعامة السلطان سليم الأول على فلسطين بما فيها القدس سنة 1516م، وأصبحت القدس جزءاً من ولاية دمشق إبان الحكم العثماني، واهتمّ السلطان سليم القانوني (1520-1566م) بعمارة القدس فجدد السور ورمم قبة الصخرة وجدران الحرم وأبوابه.
ولم تلبثْ المدينة أنْ عانت خلال القرنيْن التالييْن من الضعف الذي أصاب الدولة العثمانية، واستمرّ الحكم العثماني لمدينة القدس حتى سنة 1917م.
وفي خريف سنة 1917م دخلت فلسطين قوات مسلحة بريطانية واستولت على مدينة القدس، وأصبحت تحت الإدارة العسكرية البريطانية، وفي العام نفسه أصدر وزير خارجية بريطانيا آنذاك المستر بلفور ما يسمى بـ"وعد بلفور" الخاص بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، وفرضت بريطانيا الانتداب البريطاني على البلاد منذ سنة 1922م حتى سنة 1948م.
وخلال هذه الفترة، وتحديداً سنة 1947م وافقت الجمعية العامة للأمم المتحدة على مشروع تقسيم فلسطين إلى دولتين: عربية ويهودية، وأنْ تبقى مدينة القدس تحت إشراف مجلس الوصاية التابع للأمم المتحدة بوصفها كياناً مستقلاً.
وفي سنة 1948م أعلنت سلطة الانتداب البريطاني عزمها على الانسحاب من فلسطين، وانسحبت فعلاً في 14 مايو 1948م. وفي 15 مايو 1948م أعلن المجلس القومي اليهودي المؤقت في "تل أبيب" قيام دولة "إسرائيل"، وتلا ذلك فوراً قتالٌ بين القوات المسلحة اليهودية والقوات المسلحة العربية، وبعد انتهاء شتى مراحل القتال كانت القدس الغربية تحت سيطرة اليهود، والقدس الشرقية تحت حماية الأردن، وبقِيَت المدينة مقسمة على هذا النحو حتى سنة 1967م حين استولت "إسرائيل" على باقيها.
ومنذ سنة 1967م حتى يومنا هذا بدأت مدينة القدس عهداً من المعاناة وعهداً من المقاومة للاحتلال "الإسرائيلي"، ولم تكتفِ حكومة "إسرائيل" بكلّ ما فعلته في مدينة القدس من تخريب وتدمير وتشريد أهلها، بل استصدرت سنة 1980م قراراً من الكنيست "الإسرائيلي" بأنّ مدينة القدس الموحدة هي عاصمة "إسرائيل" الأبدية.
وابتداءً من سنة 1990م حتى يومنا هذا بدأت المفاوضات بين الجانبين الفلسطيني و"الإسرائيلي" في ضوء الحل النهائي للقضية الفلسطينية بما فيها مدينة القدس التي تعتبر لبّ الصراع العربي "الإسرائيلي"، فالقدس كانت دوماً مفتاح الحرب والسلام في المنطقة، إذا استتبّ الأمن والسلام فيها نعمت المنطقة كلها بالأمن والسلام والاستقرار، وعكس ذلك صحيح.
وتعمل "إسرائيل" بكلّ ما أوتيت من غطرسة القوة على إخضاع الشعب الفلسطيني عن طريق تدميره بكل الوسائل: سياسياً، واقتصادياً، واجتماعياً، ونفسياً، وتعليمياً، ولكن التاريخ –وهو معلم الشعوب– أثبت قبل أكثر من ثمانمائة سنة في ظروف متشابهة من حيث تمزق الصف العربي والاحتلال الصليبي للقدس وفلسطين، أنّ صلاح الدين الأيوبي الذي عقد العزم وبالإرادة والتنظيم والولاء لله والجهاد في سبيله استطاع تحرير القدس، مما يحدونا أنْ نأخذ العبرة والاستفادة من دروس الماضي
*****
الحياة العلمية والثقافية في القدس:
************
القدس اسمٌ سجّله الإسلام في صفحة مشرقة من صفحات التاريخ، وهو رمز للطهر والنقاء، ولنشر السلام والوئام، وقد وضع المسلمون الدعائم الراسخة لهذه البقعة المباركة منذ أكثر من أربعة عشر قرناً، وحاطوها بالرعاية والتقدير واحترام شعائر الدين ومقدساته التي تشد إليها الرحال من جميع الأقطار ابتغاء مرضاة الله.
ولقد أصاب أحد الباحثين حينما ذهب إلى أنّ "ارتباط القدس بالحياة الإسلامية الأولى، قد جعل منها ومن الأرض المباركة حولها أكثر من مجرد تراب يعيش الإنسان المسلم فوقه، بل قاعدة أرضية مقدسة من قواعد الإسلام، لا تقوم مقامها الدنيا بأسرها"(27).
فارتباط المدينة المقدسة بالحياة الإسلامية أمرٌ بدهيّ لا جدال فيه، فقد شرفها الله بالإسراء، ومنها كان معراج رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى السماوات العلى، وفي القرآن الكريم والأحاديث النبوية نصوص كثيرة، تخصّ هذه المدينة وتبيّن مكانتها المقدسة، فهي بقعة مقدسة تهفو إليها نفوس المؤمنين في مشارق الأرض ومغاربها، حتى غدت قداستها لدى المسلمين وارتباطهم بها جزءاً لا يتجزأ من العقيدة الإسلامية.
وإنّ البلاد والبقاع كالأشخاص لها ملامح ومعالم تميزها، وصفات وخصائص تربطها بالقلوب وتصلها بالمشاعر والأحاسيس، وإنّ لبيت المقدس من هذه الصلات والروابط ما يجعل له مكانة عظيمة في نفوس المسلمين وذكرى خالدة على مر العصور والدهور.
والتاريخ العلميّ لهذه المدينة ينطوي على حقبةٍ طويلة من أمجاد الإسلام والمسلمين، تهزّ المشاعر ذكرياتها وتحفز النفوس أحداثها، وإنّ في استعراض شطرٍ من لمحات هذا التاريخ وتعرف حقائقه، ليظهر لنا بجلاء المكانة العلمية لهذه البقعة المباركة ويبين لنا مدى ما وصل إليه المسلمون من رقيّ حضاري وتقدم علمي.
ولعل تاريخ الحياة العلمية والثقافية لهذه المدينة المقدسة يبدأ منذ الفتح الإسلامي لها وحتى عصرنا الحالي، ونظراً لطول هذه الفترة، فقد تم تقسيمها إلى مراحل وفترات متميزة المعالم، تناول الباحث في كل منها لمحة تاريخية موجزة عن الحركة العلمية والتعليمية فيها واتجاهاتها العامة، ومراكزها الرئيسية ومؤسساتها وأبرز علمائها وأهم مصنفاتهم.
ويجب ألا يغيب عن البال –في هذا المقام– أنّ عملية تقسيم التاريخ العلمي إلى فترات ما هو إلا تقسيم اصطناعي بالدرجة الأولى من أجل الدراسة فقط، ذلك أنّ التاريخ العلمي للقدس ما هو إلا حلقات زمنية متصلة ومتداخلة ومتراكمة من الصعب فصلها عن بعضها، ومع ذلك لا ينكر الباحث أنّ هناك بعض الأحداث ذات سمات بارزة قد تترك آثارًا خاصة يحسن أخذها بعين الاعتبار، وقد تصبح مرشدًا عمليًا لتحديد الفترة الزمنية، وقد تبلغ من الأهمية أنْ تسمى الفترة الزمنية بها.
*****
الفترة الأولى: منذ الفتح الإسلامي وحتى نهاية العصر الفاطمي (17-492ه/638-1099م):
************
حضّ الإسلام بقوة على طلب العلم، وجعله فريضة على كل مسلم ومسلمة، وكرّم العلماء وجعلهم ورثة الأنبياء، وذلك ظاهر بجلاء في آيات كثيرة من القرآن الكريم وفي كثير من أحاديث الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم الذي كان معلماً، وكذا كان الصحابة من بعده.
وكان من التوجيهات الأولى لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب بعد فتح القدس الأمر ببناء المساجد التي كانت مراكز عبادة ومراكز علمية وتعليمية في الوقت نفسه، وقد قام عمر نفسه بإنشاء مسجدٍ في القدس(. ومنذ ذلك الحين فقد شهدت مدينة القدس حركة علمية نشطة بفضل مكانتها الدينية، قال يعلى بن شداد بن أوس: وشهدت مع معاوية ببيت المقدس فجمع بنا، فإذا جُلُّ مَن في المسجد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم.
واهتم خلفاء بني أمية اهتماماً خاصاً ببيت المقدس، وكان أعظم مآثرهم فيها بالطبع بناء قبة الصخرة سنة 72هـ/691م، ثم بناء المسجد الأقصى بعد ذلك بسنوات، وفي ظلّهم استمرّ العطاء العلمي للتابعين وأتباع التابعين في القدس.
وقد حفل المسجد الأقصى في العهد الأموي بقُرّاء القرآن الكريم والمُحدّْثين والمفسرين والفقهاء، من أمثال أبي عمر سليمان بن عبد الله الأنصاري الفلسطيني، والوليد بن عبد الرحمن الجرشي، ومقاتل بن سليمان.
وفي دراسة حديثة تشير إلى أنّ عدد علماء القدس وقتئذ بلغ (30) عالماً. وهناك عدد غفير من الصحابة الذي علّموا ببيت المقدس ومنهم من توفوا فيها.
ومن المعلوم تاريخياً أنّ حكم بني أمية انتهى سنة 132هـ، وقد كان لهم قصب السبق في وضع أسس التعليم وتنشيط الحركة العلمية، وقد تمثل ذلك في الاهتمام بإقراء القرآن، وبدء تدوين الحديث الشريف، والسيرة النبوية، واتخاذ اللغة العربية لغة رسمية في الإدارة والمعاملات، كما ظهرت أساليب متميزة في الكتابة النثرية وجمع التراث العربي في الشعر والأدب.
ومع بداية العصر العباسي حدثت بعض التغيرات في نشاط المراكز العلمية في مدينة القدس، ففي القرن الثاني الهجري شهد بيت المقدس حركة علمية نشيطة تمثلت في:
1- زيارة عددٍ كبير من العلماء والأئمة من مختلف البلدان إلى المسجد الأقصى كالأوزاعي والليث بن سعد والإمام الشافعي.
2- ازدهرت القراءة في المسجد الأقصى ازدهاراً شديداً وخاصة من أهل فلسطين.
3- صار المسجد الأقصى قبلة طلاب العلم من بلاد الشام وخارجها.
ولكن هذا النشاط العلمي والتعليمي في المسجد الأقصى لم يلبثْ طويلاً، حيث تراجع بعض الشيء، وخاصة في القرنيْن الثالث والرابع الهجريين، وعلى سبيل المثال فإنّ مجير الدين الحنبلي لا يذكر من علماء بيت المقدس سوى واحد في القرن الثالث وواحد في القرن الرابع(، وأغلب الظن أنّه يقصد علماء الدين, وزاد هذا الانحسار العلمي في أواسط القرن الرابع الهجري بصورة ملفتة للنظر –إبان الحكم الفاطمي– حيث يصف "المقدسي" القدس بأنها قليلة العلماء(.
وربما ترجع ظاهرة قلة علماء القدس في القرنين الثالث والرابع الهجريين إلى العوامل الآتية:
1- هجرة بعض علماء فلسطين إلى الأقطار الأخرى كالقاهرة ذات الثقل العلمي وموئل المراكز العلمية الكبرى، وبغداد ودمشق حيث كانتا أكثر اجتذاباً للعلماء.
2- ضعف الحركة العلمية في البلاد نتيجة للحروب التي نشبت بين الفاطميين والقرامطة.
وكانت العلوم الشرعية هي السائدة –بطبيعة الحال– طوال هذه الفترة في الدراسة والتعليم بالمسجد الأقصى، وتشير إحدى الدراسات الحديثة إلى أنّ حوالي 95% من علماء الشام وفلسطين (القدس) في القرون الثلاثة الأولى للهجرة كانوا يُعلّمون الدين وعلومه والأدب واللغة والتاريخ، أما مدرسو العلوم الطبيعية والتجريبية فلم يتجاوزْ عددهم 5% في أحسن الحالات.
ومما يلفت النظر أنّه في القرن الرابع الهجري حدث انحسارٌ نسبي للدراسات الدينية، في مقابل تطور في الدراسات التطبيقية، ويذكر ابن أبي أصيبعة وجود عددٍ كبير من أطباء القدس، منهم على سبيل المثال: محمد بن أحمد بن سعيد التميمي الذي درس الطب على يد الراهب زخريا بن ثوابة، وأبو محمد بن أبي النعيم أبو علي... الخ. وهذا حقّ حيث اهتم الفاطميون بإنشاء بيمارستانات في القدس، والتي كانت بمثابة معاهد علمية لتدريس العلوم الطبية.
وكذلك زادت حركة التأليف في العلوم الجغرافية في هذا القرن (القرن الرابع الهجري)، ولعل كتاب "أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم" الذي ألفه الرحالة الجغرافي محمد المقدسي البشاري يعتبر من أفضل الكتب التي وضعها الجغرافيون العرب القدامى.
وشهد القرن الخامس الهجري انتعاشًا كبيرًا في العلوم الدينية، ولا سيما في بيت المقدس، حيث غدا المسجد الأقصى –من جديد– مركزًا لحياة علمية نشطة، ضمّت علماء كثيرين من فلسطين ومن خارجها، منهم الشيخ نصر بن إبراهيم المقدسي، وأمّ البيت وعلّم فيه عددًا غفيرًا من العلماء من كل حدب وصوب، من الأندلس وفارس والحجاز، من أمثال الإمام الطرطوشي الأندلسي، والإمام أبو حامد الغزالي، والإمام الشيرازي، وغيرهم كثيرون.
كما شهد القرن الخامس الهجري أيضاً نشاطاً في ميدان الأدب من شعر ونثر، ويؤيّد ذلك ما ذكره ابن العربي "لقيت بها بحر أدب يعب عبابه، ويغيب ميزابه، فأقمت بها لأرتوي منه نحواً من ستة أشهر".
أمّا عن مؤسسات التعليم في مدينة القدس –خلال تلك الفترة– فيمكن تحديدها في مؤسستين –شأنها شأن سائر البلدان الإسلامية– هاتان المؤسستان هما:
1- الكُتّاب: حيث أخذ على عاتقه مهمة تعليم القراءة والكتابة للأطفال والصبيان ومحو أميتهم، فضلاً عن تعليمهم مبادئ الدين الإسلامي، وشيئًا من النحو والحساب والحكم والأمثال، لتأهيلهم لمواصلة تعليمهم في المؤسسة الثانية (المسجد).
2- المسجد: وكان مركز التعليم الأساسي آنذاك في البلدان الإسلامية، فقد بدأ بناء المساجد في القدس من زمن بعيد، ومن المساجد الأولى في القدس المسجد الذي بناه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في الحرم الشريف، ثم جدد الأمويون بناء المسجد الأقصى، وبنوا مسجد قبة الصخرة.
لقد كان المسجد الأقصى موئلاً للعلم في مدينة القدس، وكان عماد الحركة الفكرية فيها، وقد قام بدورٍ كبير في دفع هذه الحركة وتطورها، لقد كان المسجد الأقصى جامعة إسلامية، إذا جاز لنا أنْ نطلق اسم جامعة على المسجد التعليمي، وكانت له رسالة علمية، وقد قام بها خير قيام وأداها حقاً على ما يرام، ولا غرو في ذلك، فقد كان الأقصى يمثّل مظهراً حضارياً وفكرياً، ومظهراً من مظاهر التمدن الإسلامي، ويقوم بدوره في دراسة التراث الإسلامي والحفاظ عليه، وبهذا كان له أثر كبير في خدمة الثقافة الإسلامية ورعايتها وتنشيط الحركة العلمية وصيانتها.
ويضاف إلى هاتين المؤسستين الخوانق التي أقامها محمد بن كرام (المتوفى سنة 255هـ/869م) وأتباعه الكرامية في القدس للعبادة والذكر والتعليم. ويضيف البعض إلى ذلك "دار العلم" التي أنشأها الفاطميون بالقدس على غرار دور العلم التي أنشؤوها في القاهرة وطرابلس لنشر المذهب الشيعي.
أما بالنسبة للكتب التي كانت متداولة في القدس –وفي بقية البلدان الإسلامية– بمعناها المعروف، فقد بدأت في الظهور في القرن الثاني الهجري، ثم زادت في القرون التي تلته، وكان معظمها يتصل بتعليم الشيوخ الثلاثة: الزهري (ت 124هـ) الأوزاعي (ت157هـ) الوليد بن مسلة (ت 195هـ). ثم بدأ يظهر من الكتب ما يعرف بالمسند وهي الكتب التي تجمع أحاديث كل صحابي على حدة، ثم ظهرت الكتب التي تعرف بالمجاميع وقد رتبت فيها الأحاديث حسب الأبواب، ثم ظهرت كتب الطبقات التي رتب فيها الرجال في طبقات
*************
الفترة الثانية: وتشمل العصرين الأيوبي والمملوكي (583-922هـ/1187-1516م):
***********
يعَدّ دخول صلاح الدين الأيوبي مدينة القدس -بعد انتصاره على الصليبيين سنة 583هـ/1187م- بداية جديدة للحياة العلمية التي عمت ديار الشام عامة وفلسطين خاصة والقدس على وجه الخصوص.
ولم تمنعْ صلاح الدين مشاغله الحربية وهمومه السياسية من الاهتمام بالعلم وأهله، فأعاد بناء ما خرّبه الصليبيون من دور علمٍ وما أحرقوه ودمروه من خزائن كتب، وما هدموه من مدارس ومساجد ومنشآت حضارية تمثل الوجه المشرق للحضارة الإسلامية.
واستهل صلاح الدين عهده في فلسطين بعمليْن جليلين هما:
1- إنشاء المدارس.
2- العمل على تزويد المسجد الأقصى بالكتب الدينية والعلمية.
فقد عَمَد إلى تحويل الدار التي بناها فرسان المنظمة الصليبية العسكرية المسماة "الاستبارية" إلى مدرسة كبرى هي "المدرسة الصلاحية" لتدريس الفقه الشافعي بها، ويسجّل هذه الواقعة العماد الأصفهاني بقوله: فاوض السلطان (يقصد صلاح الدين) جلساءه من العلماء الأبرار والأتقياء الأخبار في مدرسة للفقهاء الشافعية ورباط للعلماء الصوفية، فعين للمدرسة الكنيسة المعروفة بصند حنّة(*) عند باب الأسباط، وعين دار البطرك للرباط ووقف عليهما وقوفاً.
ويشير مجير الدين الحنبلي إلى حرص صلاح الدين على تزويد هذه المؤسسات التعليمية بالكتب: إن السلطان صلاح الدين أمر بهدم البناء الذي أقامه الصليبيون في الصخرة، وأعادها كما كانت, ورتّب لها إماماً حسن القراءة ووقف عليها داراً وأرضاً وحمل إليها وإلى محراب المسجد الأقصى مصاحف وختمات وربعات شريفة.
واشتهر سلاطين بني أيوب بحبهم للعلم والعلماء –وعلى رأسهم صلاح الدين– الذي جمع حوله رجال العلم وكان يحضر مجالسهم ويستمع إليهم ويشاركهم في أبحاثهم.
ومن النصوص السابقة يتبيّن بوضوح التطورات التي حصلت في القدس في العصر الأيوبي، والتي تمثلت -بداية- في عناية صلاح الدين بإعادة الحياة العلمية والدينية إلى المسجد الأقصى ومدّه بالمصاحف الشريفة، وأوقف عليه الأوقاف الكثيرة للإنفاق عليه، كما أنشأ كثيراً من مؤسسات التعليم الأخرى وعلى رأسها المدارس، فأنشأ المدرسة الصلاحية والخانقاه الصلاحية، ومكتباً لتعليم الأطفال.
وقد سار الأيوبيون على سُنّة صلاح الدين في تأسيس المعاهد العلمية وتزويدها بالمدرسين والكتب المخطوطة، فكانوا محبين للعلم وأهله، فالعزيز عثمان الذي خلف أباه صلاح الدين في السلطنة، يقول عنه ابن خلكان "إنه سمع الحديث من الحافظ السلفي، والفقيه أبي طاهر بن عوف الزهري، وسمع بمصر من العلامة أبي محمد بن بري النحوي وغيرهم". وقد جدد الملك المعظم عيسى بن أحمد بن أيوب بناء المدرسة الناصرية وجعلها زاوية لقراءة القرآن والاشتغال بالنحو، ووقف عليها كتباً في جملتها إصلاح المنطق لابن السكيت بخط الإمام النحوي ابن الخشاب.
ومثل هذا يُقال عن بقية سلاطين بني أيوب وخاصة السلطان الكامل الذي قال عنه المقريزي "كان يحب أهل العلم، ويؤثر مجالستهم، وعنده شغف بسماع الحديث النبوي، وكان يناظر العلماء، وعنده مسائل غريبة من فقه ونحو يمتحن بها، فمن أجاب عنها قدمه وحظي عنده".
لذا لا عجب إذا اشتهر من بني أيوب أنفسهم أعلام في شتى ضروب المعرفة، فمنهم المؤرخ المشهور أبو الفدا، وهو عماد الدين إسماعيل بن الملك الأفضل نور الدين علي بن جمال الدين محمود بن عمر بن شاهنشاه بن أيوب (ت 732هـ/1331م) وهو صاحب كتاب "المختصر في أخبار البشر".
وقد حاكى سلاطين المماليك سلاطين الأيوبيين في بناء المدارس، وكان المماليك –رغم كونهم من أصول غير عربية متعددة– أصحاب فضلٍ في ازدهار النشاط العلمي في بلدان العالم الإسلامي، حيث اتّسم عصرهم بالأمن والاستقرار، وهما الدعامتان الأساسيتان لأي نشاط علمي وحضاري. "وخير ما يدلّ على ازدهار الحياة العلمية على عصر سلاطين المماليك، عظم الثروة العلمية التي وصلتنا من ذلك العصر بالذات، وما زالت دور الكتب في أنحاء العالم كافة مشحونة بمئات المخطوطات التي ترجع إلى ذلك العصر، والتي تناولت معظم ألوان المعرفة: الأدب والتاريخ والجغرافيا والعلوم الدينية والطب والفلاحة والمعارف العامة وغيرها.
وكانت هذه المؤلفات تدرس في المدارس التي أنشأها سلاطين المماليك، وخاصة العلوم الدينية، التي قصد الحكام بإقامتها التقرب إلى الله وكسب الثواب.
وجملة القول إنّ أبرز التطوّرات في مجال الحركة العلمية والثقافية في هذه الفترة تمثلت في الاهتمام بالمساجد وخاصة المسجد الأقصى، وإنشاء المدارس، ففي هذه الفترة أخذ المسجد الأقصى يغصّ من جديدٍ بالعلماء من جميع أنحاء العالم الإسلامي، وقد أورد مجير الدين الحنبلي في الجزء الثاني من كتابه الأنس الجليل سيراً مختصرة لحوالي (440) عالماً وخطيباً وقاضياً ومؤلفاً ممن عاشوا وعلّموا في بيت المقدس منذ الفتح الصلاحي حتى سنة 900ه/1494م. والمدارس تطوّر جديد في العالم الإسلامي حدث بعد الأربعمائة من سني الهجرة –على حدّ قول المقريزي– حيث بدأت المدارس في الظهور وقاسمت المسجد الأقصى عملية التدريس والتعليم.
وكان الهدف من إنشاء المدارس وكثرتها –خلال تلك الفترة– هو تدعيم المذهب السني ضد المذهب الشيعي، وكان صلاح الدين شافعياً متحمّساً لمذهبه، لذا يرجع له الفضل في إنشاء أول مدرسة في القدس لتدريس هذا المذهب، وهي المدرسة الصلاحية سنة 588هـ. ومهما يقال عن أهداف صلاح الدين من إنشاء المدارس، فإنّ التوسع في إقامة هذا النوع من المؤسسات جاء في حدّ ذاته مظهراً قوياً لرقي الحياة الفكرية في عصر الأيوبي.
وكانت المدارس في هذه الفترة تعادل في مستواها جامعات اليوم، فهي كليات ومعاهد للتعليم العالي، وكان لكل مدرسةٍ مذهبها الذي تتبعه، وكان بعضها يشتمل على أربع كليات للمذاهب الأربعة، حيث كانت مدارس دينية بالدرجة الأولى، فانصبّ جُلّ اهتمامها على تدريس العلوم الدينية من فقه وحديث وتفسير وغيرها، ولكن هذا الوضع لم يلبثْ أنْ تطوّر حتى غدت المدارس مراكز لتعليم وتدريس النحو والفلسفة والعلوم الطبيعية كعلوم الحساب والجبر والميقات، فضلاً عن العلوم الدينية.
كذلك شهدت الفترة نشاطاً ملحوظاً في علوم اللغة العربية وخاصة النحو والصرف، واشتهر من علماء اللغة في ذلك العصر أبو محمد بن بري المتوفى سنة581هـ/1185م، وأبو الفتح البلطي المتوفى سنة596هـ/1200م، وابن عبد المعطي الزاوي المتوفى سنة 628هـ/1231م، وابن الحاجب المتوفى سنة 646هـ/1248م.
ويفيدنا البلوي في كتابه "تاج المفرق" بمعلومات قيمة عن العلوم والكتب التي كانت تدرس في هذه الفترة، وهي كتب الحديث والطب والتصوّف. وكذلك أخذ موضوع "فضائل بيت المقدس" يحتلّ مكاناً مرموقاً في مجالس التدريس، وخاصةً بعد الفتح الصلاحي لبيت المقدس، حيث ألقى تحرير القدس على يد صلاح الدين الأيوبي من الصليبيين سنة 583هـ/1187م مسؤولية كبيرة على علماء العالم الإسلامي من فقهاء ومحدثين ومؤرخين وغيرهم، ذلك أنّ عروبة الأرض المقدسة وإسلاميتها أصبحتا مسألة يعوزها التجذير بعد تسعين سنة من الاحتلال الصليبي الذي عمل على تقليص الوجود العربي والإسلامي ومحوه من الأرض المقدسة، ولما كنا نرصد تاريخ الحركة العلمية في القدس فتجدر الإشارة إلى الدور الكبير الذي قام به علماء المسلمين وفقهاؤهم في وضع المصنفات التي تدعو إلى الجهاد وتحث عليه, واستثاروا مشاعر الناس وهممهم ووجهوها نحو الأرض المقدسة لاستنقاذها وتحريرها، وإمعاناً في ترغيب الأمة بالثواب من الله، صنفوا في فضائل المدن وعلى الأخص مدينتي القدس والخليل لما لهما من مكانة مقدسة عند المسلمين، وهكذا وضع هؤلاء العلماء والفقهاء سواء كانوا من بيت المقدس أو من خارجها سلسلة من الكتب سميت بـ"كتب الفضائل" وافتتح التأليف في هذا الفن محمد بن أحمد بن محمد الواسطي المقدسي (410هـ/1019م) خطيب المسجد الأقصى، بكتابه الموسوم "فضائل القدس" وهو أقدم كتاب مستقل عن فضائل القدس، تحدث فيه عن الأماكن المقدسة وفضلها، وفضل القدس والصلاة فيها وخاصة المسجد الأقصى ومسجد قبة الصخرة. وكانت كتب الفضائل تدرس في المسجد الأقصى وفي المدارس، ومن أشهر هذه الكتب.
1- باعث النفوس إلى زيارة القدس المحروس، لبرهان الدين الفزاري المتوفى سنة 729هـ/1328م.
2- مثير الغرام إلى زيارة القدس والشام، لأحمد بن محمد بن هلال المقدسي المتوفى سنة 745هـ/1344م.
3- فضائل القدس، لأبي الفرج عبد الرحمن بن علي بن الجوزي المتوفى سنة 597هـ/1201م.
4- إتحاف الأخِصّا بفضائل المسجد الأقصى لشمس الدين محمد بن أحمد المنهاجي السيوطي المتوفى سنة 880هـ/1475م.
5- روضة الأنس في فضائل الخليل والقدس لعارف الشريف المتوفى سنة 1383هـ.
وقد كثرت الكتب التي كانت تُدرّس في هذه الفترة، وزادت زيادة كبيرة، ويضيق المجال هنا عن حصرها؛ وتكفي الإحالة إليها.
وقصارى القول: يعتبر العصران الأيوبي والمملوكي قمّة التطوّر في النشاط العلمي في فلسطين بصفة عامة، وفي القدس بصفة خاصة، فأُنشِئَت فيهما مؤسسات التعليم على اختلافها، وأخذ المسجد الأقصى مكانته المرموقة جامعة إسلامية، وزاد عدد العلماء زيادة كبيرة لم تبلغها أية فترة أخرى، وزاد عدد المؤلفات والمصنفات، وهذا كله كان له كبير الأثر في تطور الحركة العلمية والتعليمية والثقافية في مدينة القدس.
القدس هي إحدى عواصم المسلمين الروحية وعاصمة فلسطين السياسية، وستظل إن شاء الله ما دامت السماوات والأرض، فالقدس عربية المنشأ والهوية، أسسها اليبوسيون العرب –وهم بطن من الكنعانيين– وأطلقوا عليها "يورسالم" أو "يبوس" على اسم اليبوسيين بناة القدس الأولين، وكان ذلك سنة 3000 ق.م(1). ومنذ ذلك التاريخ إلى يومنا هذا لم تعرفْ بقعة في العالم تصالحت عليها المحن واختلف عليها الغزاة والطامعون من كل حدب وصوب كأرض فلسطين وخاصة مدينة القدس.
وتُعدّ مدينة القدس ظاهرة حضارية فذة تنفرد بها دون سواها من مدن العالم، ويحار من الباحثين كل من يحاول استشفاف أسباب نشأة هذه المدينة المقدسة والتعرف إلى الخصائص الجغرافية والتاريخية والحضارية الفريدة التي يتمتع بها كل من الموقع والموضع.
والقدس ليست مجرد مدينة من المدن أو عاصمة من العواصم، وإنما هي مركز إشعاع يتفجر بمعان تاريخية ودينية وحضارية قلّما توافرت في مدينة أخرى، فمدينة القدس تحتل مكانة بارزة في وعي الإنسان في كل مكان وزمان، حيث تميزت تاريخياً بأنها مدينة ترفض الاستسلام طوعاً لأحد من الغزاة، وهي تتجمّل بالصبر على محاولات اغتصابهم لها وفرض سطوتهم عليها بالقوة.
ولا يلخص هذا الوصف واقع مدينة القدس التاريخي تماماً، أو كما حدث بالتفصيل، ولا يكشف عن واقعها المرير الآن، ولكنه يكشف عن حضورها التاريخي ويؤكد شخصيتها المتميزة المتمردة على كل ظلم وظالم.
والقراءة المتأنية لتاريخ المدينة تكشف عن مراحل تألقت فيها القدس، فاحتلت خلالها مراكز مرموقة ومكانة حضارية رفيعة، مما جعلها دوماً في قلب الحدث التاريخي، كذلك تميزت المدينة بالمحافظة على مركزيتها وأهميتها الإستراتيجية.
وللجغرافيا أيضاً إسقاطاتها المختلفة على القدس، ودون التطرق إلى التفاصيل، يمكن القول إنّ المدينة قد وقعت في أهم منطقة في العالم: منطقة البحر الأبيض المتوسط، وتشكل هذه المنطقة نقطة تجمع للممرات الدولية الهامة، كمضيق جبل طارق والدردنيل ومنطقة الخليج عبر مضيق هرمز وباب المندب وقناة السويس.
وموضوع القدس مثير للدارس والباحث كما هو مثير للسياسي والمتعبد، فهو موضوع يحفل بالحقائق الموضوعية وبالوقائع التاريخية، والعواطف والمعتقدات الدينية، كل هذا أكسب مدينة القدس أهمية وتميزًا وتفردًا لا يشاركها فيها أحد، حتى غدت أهم مدينة في العالم بعد مكة المكرمة والمدينة المنورة.
وسوف أبحث تحت هذا العنصر في تجوال سريع عبر ما يزيد على ثلاثة آلاف سنة الموقع الجغرافي لمدينة القدس والمراحل التاريخية المتعددة لهذه المدينة، فضلاً عن الإشارة إلى مكانتها الدينية والحضارية ولكنني بطبيعة الحال لست معنياً بالدخول في تفاصيل هذه الموضوعات، فإنّ المهتم يستطيع الرجوع إليها في مصادر متخصصة أشرنا إليها جملة في متن هذا البحث، ولكن هذا العرض السريع يهدف إلى إلقاء نظرة هنا وأخرى هناك تقودنا إلى التعرف إلى طبيعة هذه المدينة من حيث النشأة والتطور وعبقرية المكان والتحضر، ولمدينة القدس شخصيتها ولها تمايزاتها، وليس من السهل على الإنسان تجاهل خصوصيات المدن، أو إخضاعها لمعايير ثابتة وكأنها تصنع صناعة مثلها في ذلك مثل أي إنتاج آخر من صناعة الإنسان.
وتحتل جغرافية القدس حيزاً فسيحاً في صفحات التاريخ سواء القديم أو الحديث، فتقع مدينة القدس في قلب فلسطين فوق تل صخري على بعد نحو خمسين كيلومتراً من مدينة "يافا"، على خط العرض (31.52ْ) شمالاً، وخط الطول (35.13ْ) شرقي جرينتش، وقد بنيت المدينة على مرتفعات أربعة تحيط بها مجموعة وديان، وهذه المرتفعات هي: جبل مورُيّا القائم عليه الحرم القدسي الشريف، وجبل أكرا حيث توجد كنيسة القيامة، وجبل بزيتا بالقرب من باب الساهرة، وجبل صهيون الواقع عليه مسجد النبي داوود، وتحيط بالمدينة جبال منها: جبل رأس أبو عمار، وجبل الزيتون، وترتفع المدينة (892) متراً عن سطح البحر(2)، كما تحيط بالمدينة عدة تلال وأودية، وهذه الأودية هي "وادي قدرون من الغرب، ووادي هنوم من الشرق، ويبدأ الواديان من الطرف الشمالي الغربي، ويلتقيان في جنوب المدينة، وبذلك يحيطان بالمدينة من الشرق والغرب والجنوب"(3).
وكان من الطبيعي أنْ يقع اختيار سكانها الأصليين وهم اليبوسيون (بطن من الكنعانيين العرب) على هذا الموقع بالذات لبناء مدينة القدس التي أطلقوا عليها اسم "يبوس" منذ الألف الثالث قبل الميلاد، وذلك لما يتميز به هذا الموقع من حصانة طبيعية في وجه الغزاة، فضلاً عن توفر المياه به، فعلى مقربة من "حصن يبوس" يوجد ماء غزير في وادي قدرون.
ويعتبر "حصن يبوس" أقدم أبنية المدينة، وقد شيده اليبوسيون على القسم الجنوبي من الهضبة الشرقية، وشيدوا في طرف الحصن برجاً عالياً للسيطرة على المنطقة، وأحاطوا الحصن بسور(4).
وهكذا قامت مدينة القدس في موقع متميز من أرض فلسطين جعل منها "صورة الوطن المقدس وملتقى أقطاره"(5)، الأمر الذي حدا ببعض العلماء الأقدمين إلى اعتبارها مركز الكوكب الذي نعيش على سطحه، ويدور في فلك القدس عدد من المدن والقرى، ولموقعها هذا أهمية إستراتيجية وأهمية دينية وأهمية حضارية.
وتنقسم مدينة القدس إلى قسمين:
1- المدينة القديمة (القدس الشرقية) وهي زاخرة بآثارها الدينية، وتضم معظم الأماكن المقدسة، وأهم هذه الأماكن "المسجد الأقصى"، وهو الحرم المقدس للمسلمين، الذي تهفو إليه قلوب الملايين من بني البشر. وقد احتلت "إسرائيل" هذا القسم من مدينة القدس عام 1967م.
2- المدينة الجديدة (القدس الغربية): وهي حافلة بالمباني والطرق الحديثة، وقد اغتصبت "إسرائيل" هذا القسم من مدينة القدس اغتصاباً واستولت عليه عنوة عام 1948م.
وتشكيل المدينة هو انعكاس جدلي للموقع الجغرافي الذي تنمو فيه ولمناخها الطبيعي ولطبيعة الناس الذين ينتمون إليها، وخلال تاريخها الطويل تعرّضت القدس لمؤثرات خارجية متعددة كانت متعارضة الأسلوب والهدف في معظم الأحيان، فتركت بصمات واضحة على واقعها التنظيمي وطابعها المعماري.
ولما كانت القدس أكثر المدن فرادة في العالم –حيث تتميز بشخصية واضحة المعالم– فقد كيفت نفسها مع هذه المؤثرات الخارجية ومزجت بينها وبين طبيعة موقعها وحاجات إنسانها المادية والأمنية والروحية، وفضلاً عن كونها مدينة فريدة، فهي مدينة شرق أوسطية، حملت بعض سمات نظيراتها في المنطقة، هذه المدن نشأت كمحطات على الطرق الواصلة بين مصادر الحضارات في مراحل تاريخية متعددة(6).
وهكذا يمكن القول إنّ القدس غدت مصبًا للحضارات الوافدة، وبوتقة للتفاعل بينها، تتمثل القيم في رحمها فتلدها حضارة متميزة، وكذلك يمكن القول إنّه لوقوع القدس على خطوط المواصلات، فقد أدّى ذلك إلى تلاقح الحضارات على أرضها وظهور ملامح خاصة حفلت بها، ومن أهم هذه الملامح تبلور ثقافة مقدسية متميزة تتعايش في بيئة عربية إسلامية وتحتضن تعددية دينية وثقافية تعايشت في سلام ووئام فيما بينها. وليس غربياً والحالة هذه أن تغدو القدس مصدر إلهام لكثير من المبدعين من العلماء والأدباء، وأن يصبح موقعها بل ودورها عاملين فاعلين في تخطيطها وفي تشكيلها المعماري وبنائها الحضاري المتميز.
أما الحديث عن تاريخ القدس فهو حديث طويل موغل في القدم، قادم من أعماق التاريخ السحيق، فهو لا يقف في مداه عند بدء عصر الكتابة في القدس أوائل الألف الثالث قبل الميلاد، بل يتجاوزه إلى عصور ما قبل التاريخ التي شهدت ظهور الإنسان العاقل في القدس، وهذا التاريخ هو ثمرة تفاعل الإنسان في القدس مع بعدي الزمان والمكان.
وننظر في بعد الزمان فنجد أنّ تاريخ القدس هو تاريخ متصل على مدى العصور حافل بأحداث كثيرة، ويمكننا أن نقسم هذا التاريخ إلى مرحلتين رئيسيتين:
المرحلة الأولى: تاريخ القدس قبل الفتح الإسلامي.
المرحلة الثانية: تاريخ القدس بعد الفتح الإسلامي.
وهذا التقسيم له ما يبرره فالانطلاقة العربية الإسلامية في القرن الأول الهجري (السابع الميلادي) كان لها تأثيرها على القدس خاصة والمنطقة العربية عموماً، بحيث يمكن أنْ نميّز بين ما قبل هذه الانطلاقة وما بعدها، وقد مرّ تاريخ القدس في كل من هاتين المرحلتين بعدة أدوار، وكان بصفة عامة تاريخاً متنوعاً، محافظاً على وحدته وعلى مدى القرون التي مضت على نشأة وبناء مدينة القدس، يمكننا ونحن نستحضر تاريخها أنْ نقف عند أهم الحقائق البارزة فيها، فنذكرها بإيجاز دون تفصيل، وننظم منها عقدًا يبرز وحدة هذا التاريخ.
*****
المرحلة الأولى: تاريخ القدس قبل الفتح الإسلامي:
***********
اجتمعت كلمة المؤرخين على أنّ العرب هم مؤسسو هذه المدينة، حيث أسّسها اليبوسون وهم فرع من الكنعانيين العرب وأطلقوا عليها اسماً بلغتهم هو يورسالم، وتعني في اعتقادهم مدينة الإله، وكان أهل هذه المدينة يعتقدون بوحدانية الإله"(7).
وكان بناء هذه المدينة في حوالي الألف الثالثة قبل الميلاد، وذلك لخدمة غرض دفاعي وآخر ديني، لذا فقد بنوا هيكلاً لمعبودهم الأعلى "يورسالم" أو "سالم" –كما تذكره بعض المصادر( - وكان ملك القدس هو الإله الأعلى، ومن هنا اكتسبت المدينة قدسيتها التي استمرت بعد ذلك لأسباب أخرى.
عُرفت القدس أوّل ما عرفت باسم "سالم" الجد المؤسس أو الإله الأعلى، وقد كونت "مملكة مدينة" كغيرها من المدن الكنعانية وعرف من أسماء ملوكها "قدوم سالم" و"ملكي صادق" و"أدوني صادق" وأول ذكرٍ لها ورد في نصوص الظهارة المصرية في القرنين التاسع عشر والثامن عشر قبل الميلاد، بصورة "يوروشاليم" ومعناه على الأرجح "مدينة سالم" كما ورد ذكرها في رسائل تل العمارنة في القرن الرابع عشر قبل الميلاد باسم "يورو–سالم" وفي النقوش الأشورية باسم "أوروسليموا" وأقدم اسمٍ لها في العهد القديم هو "شاليم"(9) . وأطلقت أسماء كثيرة على مدينة القدس عبر العصور.
ويتضح مما سبق أنّ الشعب الكنعاني العربي هو الذي أسس المدينة في زمان بعيد في الماضي وهو الذي أطلق عليها اسمها، وأقام فيها بيتاً للعبادة يذكر فيه اسم الإله فأصبحت قبلة وحجاً، واستمرّت هذه صفة المدينة مع تتالي الرسالات السماوية وانتقال أهل القدس من الديانة الكنعانية إلى اعتناق الأديان السماوية الثلاث: اليهودية فالنصرانية فالإسلام.
ازدهرت الحضارة الكنعانية في مدينة القدس والبلاد التي حولها، وبلغت المساحة التي كانت تشغلها المدينة خلال الألف الثاني قبل الميلاد حوالي أربعين دونماً(*)، وقد أحاط اليبوسيون مدينتهم بسور، وحين مرّ إبراهيم (عليه السلام) حوالي سنة 1900 ق.م كانت القدس مدينة متكاملة ذات قاعدة ملكية وهياكل دينية ومركز مقدس.
وفي سنة 1049ق.م بعد انتقال موسى (عليه السلام) إلى جوار ربه، وعلى إثر انقضاء (40) سنة في صحراء التيه، تولى قيادة بني إسرائيل "يوشع بن نون" الذي عبر نهر الأردن واحتل مدينة "أريحا" ولكنه لم يفلحْ في الاستيلاء على يبوس "القدس"(10).
ولم تسقطْ القدس في يد بني إسرائيل إلا بعد ظهور النبي داوود (عليه السلام) ملكاً عليهم سنة 1020ق.م– الذي كان قد وحد قبائل إسرائيل في ذلك الزمن تقريباً، حيث زحف بجيش يضم نحو ثلاثين ألف مقاتل(11).
احتل داوود المدينة التي كانت تعرف آنذاك باسم "يبوس" في القرن الحادي عشر ق.م. وقد وفّق في اختياره لها عاصمةً لملكه لأنها حصينة ويسهل الدفاع عنها، كما أنها تتحكم في الطرق الرئيسية، وأطلق عليها اسم "أورشليم" وبنى قصره الملكي فيها، ولداوود نسبت "المزامير"(12).
ثم ورث سليمان (عليه السلام) الملك من بعد أبيه "داوود" وحكم أربعين سنة ما بين 963-923ق.م، وبنى هيكلاً وتحصينات وثكنات، وقد دمر هذا الهيكل عدة مرات في التاريخ ولا وجود له في الوقت الحاضر، رغم كل المحاولات التي قام بها بنو صهيون للعثور على بقاياه، وهكذا لم تدمْ دولة اليهود سوى فترة قصيرة، امتدت من سنة 1020ق.م إلى سنة 923ق.م أي أقل من قرن من الزمان(13).
وبعد سليمان انقسمت البلاد في عهد خلفه إلى مملكتين، وهو أمرٌ متوقع ومنتظر من اليهود الذين لا يجتمعون على نبي ولا ملك –على حد تعبير أحد العلماء(14)– هما مملكتا إسرائيل ويهوذا:
* مملكة إسرائيل: كانت توجد في الشمال واتخذت السامرة (نابلس) عاصمة لها، وعاشت في الفترة من سنة 927ق.م إلى سنة 921ق.م، حيث قضى عليها الملك الأشوري "سرجون الثاني".
* مملكة يهوذا: كانت توجد في الجنوب واتخذت أورشليم عاصمة لها، وعاشت في الفترة من سنة 923ق.م إلى سنة 586ق.م، حيث قضى عليها ملك بابل "نبوخذ نصر".
وهكذا لم تُعمّر المملكتان طويلاً، بل تلاشتا إلى الأبد، وسُبِي اليهود على يد ملكي أشور وبابل، ونُقِل من بقِيَ منهم إلى بلادهما (أشور وبابل). وظلّ العرب اليبوسيون يعيشون في مدينتهم المقدسة محافظين على طابعهم السياسي وعاداتهم وتقاليدهم الاجتماعية.
وشهدت القدس منذ القرن العاشر قبل الميلاد وحتى الفتح الإسلامي تتابع حكم دول وإمبراطوريات تداولت الأيام بينها فيها، فقد حكمها المصريون في عهد شنشيق لفترة قصيرة(15)، والأشوريون فالكلدانيون فالفرس فالإغريق فالرومان، وحبلت هذه العهود بأحداث وأحداث، تجلّت من خلالها قدرة شعب القدس على التكيف مع هذه الأحداث، وعمل على الجمع بين الأصالة والتجديد بالحفاظ على هويته وبالتفاعل مع التجارب الحضارية الأخرى وتبادل التأثير معها.
وقد شهدت القدس إبّان حكم الفرس (538-332ق.م) رجوع بعض يهود السبي من بابل إليها، الذين أعادوا بناء الهيكل مرة أخرى بعد صعوبات كثيرة(16)، ولم يهدأ حال اليهود في القدس أو يتوقف عند هذا الحد، بل أخذوا يحاربون أهل القدس من الفلسطينيين ويقاتلونهم لامتلاك البلاد، الأمر الذي جعلهم يذوقون الهوان والذل أثناء الحكم الفارسيّ على فلسطين، وكذلك الحكم الروماني، حيث تعرّضوا في كل الدولة الرومانية إلى محْقٍ وخاصة في الفترة من سنة 131-135م، وذلك في عهد الإمبراطور هدريان الذي قضى على اليهود وهدم الهيكل والقدس، وأعاد بناء القدس مرة أخرى وأطلق عليها اسم "إيلياء كابيتوليا" وسمّى البلاد فلسطين السورية(17).
ومنذ ذلك التاريخ لم يقمْ في فلسطين أو القدس كيان يهودي يذكر حتى سنة 1948م، وإنْ بقِيَ يهود قليلون يقطنون البلاد بعد سنة 135م، وكان عددهم يتراوح ما بين الزيادة والنقصان تبعاً لما أبداه حكام البلاد اللاحقون من تسامحٍ أو تعنت(18).
وقد أورد القس "تشارلزت بردجمان" في كتابه إلى رئيس مجلس الوصايا بتاريخ 12/1/1980م الفترات التاريخية التي مرت بها مدينة القدس حتى الفتح الإسلامي على النحو التالي(19):
م الشعوب البيان التاريخ الفترة الزمنية بالسنة
1 الإسرائيليون من مملكة داوود إلى سقوط أورشليم 1020-586ق.م 434
2 البابليون من سقوط أورشليم إلى سقوط بابل 586-538ق.م 50
3 الفرس من سيروس إلى الغزو المقدوني الفارسي 538-332ق.م 206
4 الإغريق من غزو الإسكندر للقدس إلى تحرير المكابيين 332-166ق.م 166
5 اليهود الدول المكابية 166ق.م-63م 93
6 الرومان من الغزو الروماني للقدس إلى الفتح الفارسي 63-614م 677
الفرس فترة حكم الفرس 614-628م 14
8 الرومان إعادة فتح القدس على يد البيزنطيين 628-637م 11
من هذا البيان يتضح لنا أنّ اليهود لم يمكثوا في القدس كحكام لها إلا في عهد مملكة داوود نحو (434) سنة وفي عهد الدولة المكابية نحو (93) سنة.
من هذا العرض لتاريخ الوقائع المتعلقة بالقدس قبل الفتح الإسلامي –والذي عرضناه بإيجاز أعلاه– يمكن استخلاص بعض الحقائق التي نوجزها في النقاط التالية:
1- أن الحقائق التاريخية تؤكد أن مدينة القدس عربية منذ فجر التاريخ إلى يومنا هذا.
2- أنّ الموقع الإستراتيجي والمكانة الدينية والحضارية لمدينة القدس جعلاها مطمعاً لجميع الأمم وخاصة اليهود الذين يزعمون ويدّعون أنها أرض الميعاد.
3- أنّ اليهود لم يكونوا أصلاً من أهل القدس وإنما هم وافدون عليها وبها سكان أصليون يتألفون من الكنعانيين والفلسطينيين، لهم فيها قدم وعيش وحضارة وثقافة قائمة.
**********
تاريخ القدس بعد الفتح الإسلامي:
*********
نشأت العلاقة بين القدس والإسلام منذ أُسْرِيَ برسول الله محمد صلى الله عليه وسلم من مكة إليها، ومنها عرج إلى السماوات العلى، وأصبح الإيمان بهذا الإسراء جزءاً من العقيدة الإسلامية، وأصبحت القدس قبلة المسلمين وهم في مكة والكعبة المشرفة بين أيديهم، وبقيت قبلة المسلمين مدة تتجاوز الأحد عشر عاماً، مع أنّ الكثيرين كانوا يعتقدون أنها كانت قبلةً لمدة سنة ونصف السنة فحسب بعد الهجرة، إلى أنْ أمر النبي عليه الصلاة والسلام بتحويل القبلة إلى الكعبة في السنة الثانية من الهجرة، فقد "ظلّت القدس قبلةً ابتداءً من سنة 612 للميلاد، السنة التي فرضت فيها الصلاة، وانتهاء بسنة 623 للميلاد السنة التي حوّلت فيها القبلة إلى مكة(20)". وعلى هذا يعتبر سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الفاتح لبيت المقدس وواضع حجر الأساس للوجود الإسلامي في تلك البقعة المباركة.
في سنة 17هـ الموافق 638م فتحت مدينة القدس على يد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وتسلّم مفاتيحها من "صفرونيوس" بطريرك القدس، وأعلن عهده المشهور –المسمى العهدة العمرية– لأهل إيلياء (القدس) وفي هذا العهد أعطى الأمن والأمان لأهل القدس من المسيحيين، في أنفسهم وأموالهم وكنائسهم... الخ(21).
وبدأت القدس منذ الفتح العربي الإسلامي مرحلة جديدة في تاريخها، بقِيَت خلالها فلسطينية عربية، واستمرت مركزاً روحياً في ظلّ الحكم الإسلامي لها، واتصل تاريخها على مدى القرون الثلاثة عشر التالية، وإنْ تعرّضت خلال قرنٍ واحد منها لحكم الصليبيين.
ففي سنة 1099م استولى الصليبيون على مدينة القدس، وأنشؤوا ما يسمّى بـ"مملكة ما وراء البحار" وحكموها من القدس(22)، ولبثت تلك المملكة المسيحية حتى سنة 1187م حينما حرّر السلطان صلاح الدين الأيوبي القدس من قهر الصليبيين وانتصر عليهم في موقعة حطين في 3 يوليو 1187م، وعادت القدس إلى الحكم الإسلامي.
أمر صلاح الدين بإعادة أبنية القدس إلى حالها القديم، وطهّر المسجد والصخرة من أقذار الصليبيين، وصلى فيهما، ونصب منبراً في المسجد كان نور الدين محمود قد أمر بصنعه، وعمل صلاح الدين على توسيع المسجد الأقصى، وتدقيق نقوشه، وزوده بالمصاحف والكتب، فعاد إليه رونقه وبهاؤه وجلاله(23).
ويصوّر العماد الأصفهاني اهتمام صلاح الدين بالمقدسات الإسلامية، وخاصة المسجد الأقصى والصخرة المباركة، بقوله: "وحمل إليها (أي إلى الصخرة) وإلى محراب المسجد الأقصى، مصاحف وختمات وربعات معظمات، لا تزال بين أيدي الزائرين على كراسيها مرفوعة، وعلى أسرتها موضوعة"(24).
واستمرت عناية الأيوبيين بالأقصى والصخرة، كما اهتم من تلاهم من حكام المماليك بعمارة القدس، فجدد الظاهر "بيبرس" ما تداعى من قبة الصخرة وقبة السلسلة وزخرفهما، وبنى خلفاؤه عددًا من الآثار البديعة في المدينة، ومن مظاهر هذه العناية ما فعله بعض سلاطين المماليك في مجال القراءات "ففي عهد الملك الأشرف برسباي، وضع مصحفًا شريفًا تجاه المحراب –وهو مصحف كبير عظيم أهدي إليه بدمشق– ووقف عليه وقفًا، وعين الشيخ شمس الدين محمد بن قطْلُوبُغا الرملي المقرئ للقراءة فيه، وكان قارئاً مشهوراً في الحفظ وحسن الصوت، ثم حلّ ابنه زين الدين عبد القادر في وظيفة والده بعد وفاته"(25).
ولا شكّ أنّ هذا الصنيع يعكس عاملاً من عوامل تقدّم الحركة الفكرية في بيت المقدس، وكانت بيت المقدس مشهورة بعلمائها في العصر المملوكي، وعندما زار ابن بطوطة بيت المقدس في العصر المملوكي سنة 726هـ وصفها بأنها كانت عامرة بالعلماء(26).
واستولى العثمانيون بزعامة السلطان سليم الأول على فلسطين بما فيها القدس سنة 1516م، وأصبحت القدس جزءاً من ولاية دمشق إبان الحكم العثماني، واهتمّ السلطان سليم القانوني (1520-1566م) بعمارة القدس فجدد السور ورمم قبة الصخرة وجدران الحرم وأبوابه.
ولم تلبثْ المدينة أنْ عانت خلال القرنيْن التالييْن من الضعف الذي أصاب الدولة العثمانية، واستمرّ الحكم العثماني لمدينة القدس حتى سنة 1917م.
وفي خريف سنة 1917م دخلت فلسطين قوات مسلحة بريطانية واستولت على مدينة القدس، وأصبحت تحت الإدارة العسكرية البريطانية، وفي العام نفسه أصدر وزير خارجية بريطانيا آنذاك المستر بلفور ما يسمى بـ"وعد بلفور" الخاص بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، وفرضت بريطانيا الانتداب البريطاني على البلاد منذ سنة 1922م حتى سنة 1948م.
وخلال هذه الفترة، وتحديداً سنة 1947م وافقت الجمعية العامة للأمم المتحدة على مشروع تقسيم فلسطين إلى دولتين: عربية ويهودية، وأنْ تبقى مدينة القدس تحت إشراف مجلس الوصاية التابع للأمم المتحدة بوصفها كياناً مستقلاً.
وفي سنة 1948م أعلنت سلطة الانتداب البريطاني عزمها على الانسحاب من فلسطين، وانسحبت فعلاً في 14 مايو 1948م. وفي 15 مايو 1948م أعلن المجلس القومي اليهودي المؤقت في "تل أبيب" قيام دولة "إسرائيل"، وتلا ذلك فوراً قتالٌ بين القوات المسلحة اليهودية والقوات المسلحة العربية، وبعد انتهاء شتى مراحل القتال كانت القدس الغربية تحت سيطرة اليهود، والقدس الشرقية تحت حماية الأردن، وبقِيَت المدينة مقسمة على هذا النحو حتى سنة 1967م حين استولت "إسرائيل" على باقيها.
ومنذ سنة 1967م حتى يومنا هذا بدأت مدينة القدس عهداً من المعاناة وعهداً من المقاومة للاحتلال "الإسرائيلي"، ولم تكتفِ حكومة "إسرائيل" بكلّ ما فعلته في مدينة القدس من تخريب وتدمير وتشريد أهلها، بل استصدرت سنة 1980م قراراً من الكنيست "الإسرائيلي" بأنّ مدينة القدس الموحدة هي عاصمة "إسرائيل" الأبدية.
وابتداءً من سنة 1990م حتى يومنا هذا بدأت المفاوضات بين الجانبين الفلسطيني و"الإسرائيلي" في ضوء الحل النهائي للقضية الفلسطينية بما فيها مدينة القدس التي تعتبر لبّ الصراع العربي "الإسرائيلي"، فالقدس كانت دوماً مفتاح الحرب والسلام في المنطقة، إذا استتبّ الأمن والسلام فيها نعمت المنطقة كلها بالأمن والسلام والاستقرار، وعكس ذلك صحيح.
وتعمل "إسرائيل" بكلّ ما أوتيت من غطرسة القوة على إخضاع الشعب الفلسطيني عن طريق تدميره بكل الوسائل: سياسياً، واقتصادياً، واجتماعياً، ونفسياً، وتعليمياً، ولكن التاريخ –وهو معلم الشعوب– أثبت قبل أكثر من ثمانمائة سنة في ظروف متشابهة من حيث تمزق الصف العربي والاحتلال الصليبي للقدس وفلسطين، أنّ صلاح الدين الأيوبي الذي عقد العزم وبالإرادة والتنظيم والولاء لله والجهاد في سبيله استطاع تحرير القدس، مما يحدونا أنْ نأخذ العبرة والاستفادة من دروس الماضي
*****
الحياة العلمية والثقافية في القدس:
************
القدس اسمٌ سجّله الإسلام في صفحة مشرقة من صفحات التاريخ، وهو رمز للطهر والنقاء، ولنشر السلام والوئام، وقد وضع المسلمون الدعائم الراسخة لهذه البقعة المباركة منذ أكثر من أربعة عشر قرناً، وحاطوها بالرعاية والتقدير واحترام شعائر الدين ومقدساته التي تشد إليها الرحال من جميع الأقطار ابتغاء مرضاة الله.
ولقد أصاب أحد الباحثين حينما ذهب إلى أنّ "ارتباط القدس بالحياة الإسلامية الأولى، قد جعل منها ومن الأرض المباركة حولها أكثر من مجرد تراب يعيش الإنسان المسلم فوقه، بل قاعدة أرضية مقدسة من قواعد الإسلام، لا تقوم مقامها الدنيا بأسرها"(27).
فارتباط المدينة المقدسة بالحياة الإسلامية أمرٌ بدهيّ لا جدال فيه، فقد شرفها الله بالإسراء، ومنها كان معراج رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى السماوات العلى، وفي القرآن الكريم والأحاديث النبوية نصوص كثيرة، تخصّ هذه المدينة وتبيّن مكانتها المقدسة، فهي بقعة مقدسة تهفو إليها نفوس المؤمنين في مشارق الأرض ومغاربها، حتى غدت قداستها لدى المسلمين وارتباطهم بها جزءاً لا يتجزأ من العقيدة الإسلامية.
وإنّ البلاد والبقاع كالأشخاص لها ملامح ومعالم تميزها، وصفات وخصائص تربطها بالقلوب وتصلها بالمشاعر والأحاسيس، وإنّ لبيت المقدس من هذه الصلات والروابط ما يجعل له مكانة عظيمة في نفوس المسلمين وذكرى خالدة على مر العصور والدهور.
والتاريخ العلميّ لهذه المدينة ينطوي على حقبةٍ طويلة من أمجاد الإسلام والمسلمين، تهزّ المشاعر ذكرياتها وتحفز النفوس أحداثها، وإنّ في استعراض شطرٍ من لمحات هذا التاريخ وتعرف حقائقه، ليظهر لنا بجلاء المكانة العلمية لهذه البقعة المباركة ويبين لنا مدى ما وصل إليه المسلمون من رقيّ حضاري وتقدم علمي.
ولعل تاريخ الحياة العلمية والثقافية لهذه المدينة المقدسة يبدأ منذ الفتح الإسلامي لها وحتى عصرنا الحالي، ونظراً لطول هذه الفترة، فقد تم تقسيمها إلى مراحل وفترات متميزة المعالم، تناول الباحث في كل منها لمحة تاريخية موجزة عن الحركة العلمية والتعليمية فيها واتجاهاتها العامة، ومراكزها الرئيسية ومؤسساتها وأبرز علمائها وأهم مصنفاتهم.
ويجب ألا يغيب عن البال –في هذا المقام– أنّ عملية تقسيم التاريخ العلمي إلى فترات ما هو إلا تقسيم اصطناعي بالدرجة الأولى من أجل الدراسة فقط، ذلك أنّ التاريخ العلمي للقدس ما هو إلا حلقات زمنية متصلة ومتداخلة ومتراكمة من الصعب فصلها عن بعضها، ومع ذلك لا ينكر الباحث أنّ هناك بعض الأحداث ذات سمات بارزة قد تترك آثارًا خاصة يحسن أخذها بعين الاعتبار، وقد تصبح مرشدًا عمليًا لتحديد الفترة الزمنية، وقد تبلغ من الأهمية أنْ تسمى الفترة الزمنية بها.
*****
الفترة الأولى: منذ الفتح الإسلامي وحتى نهاية العصر الفاطمي (17-492ه/638-1099م):
************
حضّ الإسلام بقوة على طلب العلم، وجعله فريضة على كل مسلم ومسلمة، وكرّم العلماء وجعلهم ورثة الأنبياء، وذلك ظاهر بجلاء في آيات كثيرة من القرآن الكريم وفي كثير من أحاديث الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم الذي كان معلماً، وكذا كان الصحابة من بعده.
وكان من التوجيهات الأولى لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب بعد فتح القدس الأمر ببناء المساجد التي كانت مراكز عبادة ومراكز علمية وتعليمية في الوقت نفسه، وقد قام عمر نفسه بإنشاء مسجدٍ في القدس(. ومنذ ذلك الحين فقد شهدت مدينة القدس حركة علمية نشطة بفضل مكانتها الدينية، قال يعلى بن شداد بن أوس: وشهدت مع معاوية ببيت المقدس فجمع بنا، فإذا جُلُّ مَن في المسجد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم.
واهتم خلفاء بني أمية اهتماماً خاصاً ببيت المقدس، وكان أعظم مآثرهم فيها بالطبع بناء قبة الصخرة سنة 72هـ/691م، ثم بناء المسجد الأقصى بعد ذلك بسنوات، وفي ظلّهم استمرّ العطاء العلمي للتابعين وأتباع التابعين في القدس.
وقد حفل المسجد الأقصى في العهد الأموي بقُرّاء القرآن الكريم والمُحدّْثين والمفسرين والفقهاء، من أمثال أبي عمر سليمان بن عبد الله الأنصاري الفلسطيني، والوليد بن عبد الرحمن الجرشي، ومقاتل بن سليمان.
وفي دراسة حديثة تشير إلى أنّ عدد علماء القدس وقتئذ بلغ (30) عالماً. وهناك عدد غفير من الصحابة الذي علّموا ببيت المقدس ومنهم من توفوا فيها.
ومن المعلوم تاريخياً أنّ حكم بني أمية انتهى سنة 132هـ، وقد كان لهم قصب السبق في وضع أسس التعليم وتنشيط الحركة العلمية، وقد تمثل ذلك في الاهتمام بإقراء القرآن، وبدء تدوين الحديث الشريف، والسيرة النبوية، واتخاذ اللغة العربية لغة رسمية في الإدارة والمعاملات، كما ظهرت أساليب متميزة في الكتابة النثرية وجمع التراث العربي في الشعر والأدب.
ومع بداية العصر العباسي حدثت بعض التغيرات في نشاط المراكز العلمية في مدينة القدس، ففي القرن الثاني الهجري شهد بيت المقدس حركة علمية نشيطة تمثلت في:
1- زيارة عددٍ كبير من العلماء والأئمة من مختلف البلدان إلى المسجد الأقصى كالأوزاعي والليث بن سعد والإمام الشافعي.
2- ازدهرت القراءة في المسجد الأقصى ازدهاراً شديداً وخاصة من أهل فلسطين.
3- صار المسجد الأقصى قبلة طلاب العلم من بلاد الشام وخارجها.
ولكن هذا النشاط العلمي والتعليمي في المسجد الأقصى لم يلبثْ طويلاً، حيث تراجع بعض الشيء، وخاصة في القرنيْن الثالث والرابع الهجريين، وعلى سبيل المثال فإنّ مجير الدين الحنبلي لا يذكر من علماء بيت المقدس سوى واحد في القرن الثالث وواحد في القرن الرابع(، وأغلب الظن أنّه يقصد علماء الدين, وزاد هذا الانحسار العلمي في أواسط القرن الرابع الهجري بصورة ملفتة للنظر –إبان الحكم الفاطمي– حيث يصف "المقدسي" القدس بأنها قليلة العلماء(.
وربما ترجع ظاهرة قلة علماء القدس في القرنين الثالث والرابع الهجريين إلى العوامل الآتية:
1- هجرة بعض علماء فلسطين إلى الأقطار الأخرى كالقاهرة ذات الثقل العلمي وموئل المراكز العلمية الكبرى، وبغداد ودمشق حيث كانتا أكثر اجتذاباً للعلماء.
2- ضعف الحركة العلمية في البلاد نتيجة للحروب التي نشبت بين الفاطميين والقرامطة.
وكانت العلوم الشرعية هي السائدة –بطبيعة الحال– طوال هذه الفترة في الدراسة والتعليم بالمسجد الأقصى، وتشير إحدى الدراسات الحديثة إلى أنّ حوالي 95% من علماء الشام وفلسطين (القدس) في القرون الثلاثة الأولى للهجرة كانوا يُعلّمون الدين وعلومه والأدب واللغة والتاريخ، أما مدرسو العلوم الطبيعية والتجريبية فلم يتجاوزْ عددهم 5% في أحسن الحالات.
ومما يلفت النظر أنّه في القرن الرابع الهجري حدث انحسارٌ نسبي للدراسات الدينية، في مقابل تطور في الدراسات التطبيقية، ويذكر ابن أبي أصيبعة وجود عددٍ كبير من أطباء القدس، منهم على سبيل المثال: محمد بن أحمد بن سعيد التميمي الذي درس الطب على يد الراهب زخريا بن ثوابة، وأبو محمد بن أبي النعيم أبو علي... الخ. وهذا حقّ حيث اهتم الفاطميون بإنشاء بيمارستانات في القدس، والتي كانت بمثابة معاهد علمية لتدريس العلوم الطبية.
وكذلك زادت حركة التأليف في العلوم الجغرافية في هذا القرن (القرن الرابع الهجري)، ولعل كتاب "أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم" الذي ألفه الرحالة الجغرافي محمد المقدسي البشاري يعتبر من أفضل الكتب التي وضعها الجغرافيون العرب القدامى.
وشهد القرن الخامس الهجري انتعاشًا كبيرًا في العلوم الدينية، ولا سيما في بيت المقدس، حيث غدا المسجد الأقصى –من جديد– مركزًا لحياة علمية نشطة، ضمّت علماء كثيرين من فلسطين ومن خارجها، منهم الشيخ نصر بن إبراهيم المقدسي، وأمّ البيت وعلّم فيه عددًا غفيرًا من العلماء من كل حدب وصوب، من الأندلس وفارس والحجاز، من أمثال الإمام الطرطوشي الأندلسي، والإمام أبو حامد الغزالي، والإمام الشيرازي، وغيرهم كثيرون.
كما شهد القرن الخامس الهجري أيضاً نشاطاً في ميدان الأدب من شعر ونثر، ويؤيّد ذلك ما ذكره ابن العربي "لقيت بها بحر أدب يعب عبابه، ويغيب ميزابه، فأقمت بها لأرتوي منه نحواً من ستة أشهر".
أمّا عن مؤسسات التعليم في مدينة القدس –خلال تلك الفترة– فيمكن تحديدها في مؤسستين –شأنها شأن سائر البلدان الإسلامية– هاتان المؤسستان هما:
1- الكُتّاب: حيث أخذ على عاتقه مهمة تعليم القراءة والكتابة للأطفال والصبيان ومحو أميتهم، فضلاً عن تعليمهم مبادئ الدين الإسلامي، وشيئًا من النحو والحساب والحكم والأمثال، لتأهيلهم لمواصلة تعليمهم في المؤسسة الثانية (المسجد).
2- المسجد: وكان مركز التعليم الأساسي آنذاك في البلدان الإسلامية، فقد بدأ بناء المساجد في القدس من زمن بعيد، ومن المساجد الأولى في القدس المسجد الذي بناه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في الحرم الشريف، ثم جدد الأمويون بناء المسجد الأقصى، وبنوا مسجد قبة الصخرة.
لقد كان المسجد الأقصى موئلاً للعلم في مدينة القدس، وكان عماد الحركة الفكرية فيها، وقد قام بدورٍ كبير في دفع هذه الحركة وتطورها، لقد كان المسجد الأقصى جامعة إسلامية، إذا جاز لنا أنْ نطلق اسم جامعة على المسجد التعليمي، وكانت له رسالة علمية، وقد قام بها خير قيام وأداها حقاً على ما يرام، ولا غرو في ذلك، فقد كان الأقصى يمثّل مظهراً حضارياً وفكرياً، ومظهراً من مظاهر التمدن الإسلامي، ويقوم بدوره في دراسة التراث الإسلامي والحفاظ عليه، وبهذا كان له أثر كبير في خدمة الثقافة الإسلامية ورعايتها وتنشيط الحركة العلمية وصيانتها.
ويضاف إلى هاتين المؤسستين الخوانق التي أقامها محمد بن كرام (المتوفى سنة 255هـ/869م) وأتباعه الكرامية في القدس للعبادة والذكر والتعليم. ويضيف البعض إلى ذلك "دار العلم" التي أنشأها الفاطميون بالقدس على غرار دور العلم التي أنشؤوها في القاهرة وطرابلس لنشر المذهب الشيعي.
أما بالنسبة للكتب التي كانت متداولة في القدس –وفي بقية البلدان الإسلامية– بمعناها المعروف، فقد بدأت في الظهور في القرن الثاني الهجري، ثم زادت في القرون التي تلته، وكان معظمها يتصل بتعليم الشيوخ الثلاثة: الزهري (ت 124هـ) الأوزاعي (ت157هـ) الوليد بن مسلة (ت 195هـ). ثم بدأ يظهر من الكتب ما يعرف بالمسند وهي الكتب التي تجمع أحاديث كل صحابي على حدة، ثم ظهرت الكتب التي تعرف بالمجاميع وقد رتبت فيها الأحاديث حسب الأبواب، ثم ظهرت كتب الطبقات التي رتب فيها الرجال في طبقات
*************
الفترة الثانية: وتشمل العصرين الأيوبي والمملوكي (583-922هـ/1187-1516م):
***********
يعَدّ دخول صلاح الدين الأيوبي مدينة القدس -بعد انتصاره على الصليبيين سنة 583هـ/1187م- بداية جديدة للحياة العلمية التي عمت ديار الشام عامة وفلسطين خاصة والقدس على وجه الخصوص.
ولم تمنعْ صلاح الدين مشاغله الحربية وهمومه السياسية من الاهتمام بالعلم وأهله، فأعاد بناء ما خرّبه الصليبيون من دور علمٍ وما أحرقوه ودمروه من خزائن كتب، وما هدموه من مدارس ومساجد ومنشآت حضارية تمثل الوجه المشرق للحضارة الإسلامية.
واستهل صلاح الدين عهده في فلسطين بعمليْن جليلين هما:
1- إنشاء المدارس.
2- العمل على تزويد المسجد الأقصى بالكتب الدينية والعلمية.
فقد عَمَد إلى تحويل الدار التي بناها فرسان المنظمة الصليبية العسكرية المسماة "الاستبارية" إلى مدرسة كبرى هي "المدرسة الصلاحية" لتدريس الفقه الشافعي بها، ويسجّل هذه الواقعة العماد الأصفهاني بقوله: فاوض السلطان (يقصد صلاح الدين) جلساءه من العلماء الأبرار والأتقياء الأخبار في مدرسة للفقهاء الشافعية ورباط للعلماء الصوفية، فعين للمدرسة الكنيسة المعروفة بصند حنّة(*) عند باب الأسباط، وعين دار البطرك للرباط ووقف عليهما وقوفاً.
ويشير مجير الدين الحنبلي إلى حرص صلاح الدين على تزويد هذه المؤسسات التعليمية بالكتب: إن السلطان صلاح الدين أمر بهدم البناء الذي أقامه الصليبيون في الصخرة، وأعادها كما كانت, ورتّب لها إماماً حسن القراءة ووقف عليها داراً وأرضاً وحمل إليها وإلى محراب المسجد الأقصى مصاحف وختمات وربعات شريفة.
واشتهر سلاطين بني أيوب بحبهم للعلم والعلماء –وعلى رأسهم صلاح الدين– الذي جمع حوله رجال العلم وكان يحضر مجالسهم ويستمع إليهم ويشاركهم في أبحاثهم.
ومن النصوص السابقة يتبيّن بوضوح التطورات التي حصلت في القدس في العصر الأيوبي، والتي تمثلت -بداية- في عناية صلاح الدين بإعادة الحياة العلمية والدينية إلى المسجد الأقصى ومدّه بالمصاحف الشريفة، وأوقف عليه الأوقاف الكثيرة للإنفاق عليه، كما أنشأ كثيراً من مؤسسات التعليم الأخرى وعلى رأسها المدارس، فأنشأ المدرسة الصلاحية والخانقاه الصلاحية، ومكتباً لتعليم الأطفال.
وقد سار الأيوبيون على سُنّة صلاح الدين في تأسيس المعاهد العلمية وتزويدها بالمدرسين والكتب المخطوطة، فكانوا محبين للعلم وأهله، فالعزيز عثمان الذي خلف أباه صلاح الدين في السلطنة، يقول عنه ابن خلكان "إنه سمع الحديث من الحافظ السلفي، والفقيه أبي طاهر بن عوف الزهري، وسمع بمصر من العلامة أبي محمد بن بري النحوي وغيرهم". وقد جدد الملك المعظم عيسى بن أحمد بن أيوب بناء المدرسة الناصرية وجعلها زاوية لقراءة القرآن والاشتغال بالنحو، ووقف عليها كتباً في جملتها إصلاح المنطق لابن السكيت بخط الإمام النحوي ابن الخشاب.
ومثل هذا يُقال عن بقية سلاطين بني أيوب وخاصة السلطان الكامل الذي قال عنه المقريزي "كان يحب أهل العلم، ويؤثر مجالستهم، وعنده شغف بسماع الحديث النبوي، وكان يناظر العلماء، وعنده مسائل غريبة من فقه ونحو يمتحن بها، فمن أجاب عنها قدمه وحظي عنده".
لذا لا عجب إذا اشتهر من بني أيوب أنفسهم أعلام في شتى ضروب المعرفة، فمنهم المؤرخ المشهور أبو الفدا، وهو عماد الدين إسماعيل بن الملك الأفضل نور الدين علي بن جمال الدين محمود بن عمر بن شاهنشاه بن أيوب (ت 732هـ/1331م) وهو صاحب كتاب "المختصر في أخبار البشر".
وقد حاكى سلاطين المماليك سلاطين الأيوبيين في بناء المدارس، وكان المماليك –رغم كونهم من أصول غير عربية متعددة– أصحاب فضلٍ في ازدهار النشاط العلمي في بلدان العالم الإسلامي، حيث اتّسم عصرهم بالأمن والاستقرار، وهما الدعامتان الأساسيتان لأي نشاط علمي وحضاري. "وخير ما يدلّ على ازدهار الحياة العلمية على عصر سلاطين المماليك، عظم الثروة العلمية التي وصلتنا من ذلك العصر بالذات، وما زالت دور الكتب في أنحاء العالم كافة مشحونة بمئات المخطوطات التي ترجع إلى ذلك العصر، والتي تناولت معظم ألوان المعرفة: الأدب والتاريخ والجغرافيا والعلوم الدينية والطب والفلاحة والمعارف العامة وغيرها.
وكانت هذه المؤلفات تدرس في المدارس التي أنشأها سلاطين المماليك، وخاصة العلوم الدينية، التي قصد الحكام بإقامتها التقرب إلى الله وكسب الثواب.
وجملة القول إنّ أبرز التطوّرات في مجال الحركة العلمية والثقافية في هذه الفترة تمثلت في الاهتمام بالمساجد وخاصة المسجد الأقصى، وإنشاء المدارس، ففي هذه الفترة أخذ المسجد الأقصى يغصّ من جديدٍ بالعلماء من جميع أنحاء العالم الإسلامي، وقد أورد مجير الدين الحنبلي في الجزء الثاني من كتابه الأنس الجليل سيراً مختصرة لحوالي (440) عالماً وخطيباً وقاضياً ومؤلفاً ممن عاشوا وعلّموا في بيت المقدس منذ الفتح الصلاحي حتى سنة 900ه/1494م. والمدارس تطوّر جديد في العالم الإسلامي حدث بعد الأربعمائة من سني الهجرة –على حدّ قول المقريزي– حيث بدأت المدارس في الظهور وقاسمت المسجد الأقصى عملية التدريس والتعليم.
وكان الهدف من إنشاء المدارس وكثرتها –خلال تلك الفترة– هو تدعيم المذهب السني ضد المذهب الشيعي، وكان صلاح الدين شافعياً متحمّساً لمذهبه، لذا يرجع له الفضل في إنشاء أول مدرسة في القدس لتدريس هذا المذهب، وهي المدرسة الصلاحية سنة 588هـ. ومهما يقال عن أهداف صلاح الدين من إنشاء المدارس، فإنّ التوسع في إقامة هذا النوع من المؤسسات جاء في حدّ ذاته مظهراً قوياً لرقي الحياة الفكرية في عصر الأيوبي.
وكانت المدارس في هذه الفترة تعادل في مستواها جامعات اليوم، فهي كليات ومعاهد للتعليم العالي، وكان لكل مدرسةٍ مذهبها الذي تتبعه، وكان بعضها يشتمل على أربع كليات للمذاهب الأربعة، حيث كانت مدارس دينية بالدرجة الأولى، فانصبّ جُلّ اهتمامها على تدريس العلوم الدينية من فقه وحديث وتفسير وغيرها، ولكن هذا الوضع لم يلبثْ أنْ تطوّر حتى غدت المدارس مراكز لتعليم وتدريس النحو والفلسفة والعلوم الطبيعية كعلوم الحساب والجبر والميقات، فضلاً عن العلوم الدينية.
كذلك شهدت الفترة نشاطاً ملحوظاً في علوم اللغة العربية وخاصة النحو والصرف، واشتهر من علماء اللغة في ذلك العصر أبو محمد بن بري المتوفى سنة581هـ/1185م، وأبو الفتح البلطي المتوفى سنة596هـ/1200م، وابن عبد المعطي الزاوي المتوفى سنة 628هـ/1231م، وابن الحاجب المتوفى سنة 646هـ/1248م.
ويفيدنا البلوي في كتابه "تاج المفرق" بمعلومات قيمة عن العلوم والكتب التي كانت تدرس في هذه الفترة، وهي كتب الحديث والطب والتصوّف. وكذلك أخذ موضوع "فضائل بيت المقدس" يحتلّ مكاناً مرموقاً في مجالس التدريس، وخاصةً بعد الفتح الصلاحي لبيت المقدس، حيث ألقى تحرير القدس على يد صلاح الدين الأيوبي من الصليبيين سنة 583هـ/1187م مسؤولية كبيرة على علماء العالم الإسلامي من فقهاء ومحدثين ومؤرخين وغيرهم، ذلك أنّ عروبة الأرض المقدسة وإسلاميتها أصبحتا مسألة يعوزها التجذير بعد تسعين سنة من الاحتلال الصليبي الذي عمل على تقليص الوجود العربي والإسلامي ومحوه من الأرض المقدسة، ولما كنا نرصد تاريخ الحركة العلمية في القدس فتجدر الإشارة إلى الدور الكبير الذي قام به علماء المسلمين وفقهاؤهم في وضع المصنفات التي تدعو إلى الجهاد وتحث عليه, واستثاروا مشاعر الناس وهممهم ووجهوها نحو الأرض المقدسة لاستنقاذها وتحريرها، وإمعاناً في ترغيب الأمة بالثواب من الله، صنفوا في فضائل المدن وعلى الأخص مدينتي القدس والخليل لما لهما من مكانة مقدسة عند المسلمين، وهكذا وضع هؤلاء العلماء والفقهاء سواء كانوا من بيت المقدس أو من خارجها سلسلة من الكتب سميت بـ"كتب الفضائل" وافتتح التأليف في هذا الفن محمد بن أحمد بن محمد الواسطي المقدسي (410هـ/1019م) خطيب المسجد الأقصى، بكتابه الموسوم "فضائل القدس" وهو أقدم كتاب مستقل عن فضائل القدس، تحدث فيه عن الأماكن المقدسة وفضلها، وفضل القدس والصلاة فيها وخاصة المسجد الأقصى ومسجد قبة الصخرة. وكانت كتب الفضائل تدرس في المسجد الأقصى وفي المدارس، ومن أشهر هذه الكتب.
1- باعث النفوس إلى زيارة القدس المحروس، لبرهان الدين الفزاري المتوفى سنة 729هـ/1328م.
2- مثير الغرام إلى زيارة القدس والشام، لأحمد بن محمد بن هلال المقدسي المتوفى سنة 745هـ/1344م.
3- فضائل القدس، لأبي الفرج عبد الرحمن بن علي بن الجوزي المتوفى سنة 597هـ/1201م.
4- إتحاف الأخِصّا بفضائل المسجد الأقصى لشمس الدين محمد بن أحمد المنهاجي السيوطي المتوفى سنة 880هـ/1475م.
5- روضة الأنس في فضائل الخليل والقدس لعارف الشريف المتوفى سنة 1383هـ.
وقد كثرت الكتب التي كانت تُدرّس في هذه الفترة، وزادت زيادة كبيرة، ويضيق المجال هنا عن حصرها؛ وتكفي الإحالة إليها.
وقصارى القول: يعتبر العصران الأيوبي والمملوكي قمّة التطوّر في النشاط العلمي في فلسطين بصفة عامة، وفي القدس بصفة خاصة، فأُنشِئَت فيهما مؤسسات التعليم على اختلافها، وأخذ المسجد الأقصى مكانته المرموقة جامعة إسلامية، وزاد عدد العلماء زيادة كبيرة لم تبلغها أية فترة أخرى، وزاد عدد المؤلفات والمصنفات، وهذا كله كان له كبير الأثر في تطور الحركة العلمية والتعليمية والثقافية في مدينة القدس.
الإثنين 2 أبريل - 18:59 من طرف mohamed reda
» النت يفصل
الجمعة 10 فبراير - 12:52 من طرف ibnadm
» موضوع كومدى ... للنقاش ..!!
الثلاثاء 12 يوليو - 19:56 من طرف العيون الخضراء
» مسيرة تأييد للقائد بشار الاسد في قرية ام حوش
الثلاثاء 29 مارس - 2:44 من طرف Ùريد اØمد
» لتكون أجمل رجل بالعالم
الإثنين 28 مارس - 1:06 من طرف Ùريد اØمد
» وفاة عبد الحميد علوش ابو محمد
الإثنين 28 مارس - 0:46 من طرف Ùريد اØمد
» دورة امتحانية ثانية للثانوية العامة
الأحد 27 مارس - 5:47 من طرف احمد القاسم
» مرسوم بزيادة الرواتب
الجمعة 25 مارس - 9:23 من طرف Ùريد اØمد
» كيف تختارين زوجك
الثلاثاء 22 مارس - 1:31 من طرف Ùريد اØمد